الشقيقتان القحطاني.. شاهدتان على ريادة البحرين التعليمية

عائلة القحطاني في البحرين، والتي ترجع أصولها إلى فخذ آل عاطف من قبيلة قحطان، التي ينتشر أفرادها في معظم دول الخليج العربية، تميز أفرادها رجالاً ونساء بالعلم والمعرفة، والانخراط المبكر في سلك التربية والتعليم، فكانوا شهوداً على أسبقية البحرين وريادتها التعليمية على المستوى الخليجي.

وليس أدل على ذلك من حكاية الشقيقتين سكينة وموزة محمد القحطاني اللتين كانتا ضمن أوائل البحرينيات اللواتي التحقن بالتعليم النظامي ثم خدمنه من خلال العمل كمدرسات وإداريات ومشرفات لسنوات طويلة، فتخرجت على أيديهن أجيالاً متتالية من نساء البحرين المتعلمات، ناهيك عن انخراطهن أثناء ذلك وبعده في العمل التطوعي النسائي والأنشطة المدرسية اللاصفية من شعر وأدب ومسرح.

وقبل أن نشرع في سرد السيرة المفصلة للشقيقتين القحطانيتين، الذي هو في الواقع سرد لمسيرة التعليم في البحرين منذ العقد الثاني من القرن العشرين بكل ما اكتنفه من بدايات متواضعة ثم تطورات متسارعة مدهشة وتحولات، لا بد من الإشارة السريعة إلى أن موزة محمد القحطاني هي والدة الفنان البحريني المعروف قحطان القحطاني، وبالتالي فإن سكينة محمد القحطاني هي خالته، علماً بأن قحطان ولد بمدينة المحرق في 18 سبتمبر 1954 وبدأ التمثيل المسرحي لأول مرة في البحرين في عام 1973 من خلال مسرحية «عائلة بوغانم» قبل أن يسافر إلى الكويت للالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج منه في عام 1978.

وبعد تخرجه عمل مدرساً للتصوير الفوتوغرافي ثم انتقل للعمل بوزارة التربية والتعليم البحرينية في تنفيذ البرامج التعليمية وبرامج المسابقات الإذاعية والتلفزيونية التي مهدت له الطريق للانتقال إلى وزارة الإعلام كرئيس للإنتاج في تلفزيون البحرين، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى عام 2000 حينما تم تعيينه مستشاراً للشؤون المسرحية بوزارة شؤون الإعلام. وفي عام 2006 قدم استقالته ليصبح ممثلاً ومنتجاً مستقلاً للتلفزيون والأفلام والمشاريع الأخرى، فبرز على الساحة الفنية كنجم مشارك في العديد من الأعمال الدرامية والسينمائية والمسرحية.

تتقاطع سيرة الشقيقتين القحطانيتين في الكثير من التفاصيل والحكايات بحكم نشأتهما في بيت واحد ومدينة واحدة والتحاقهما بمدرسة واحدة وتعاملهما مع نفس الظروف والشخصيات والأحداث.

ولدت سكينة محمد القحطاني في بيت والديها بالمحرق سنة 1914 ابنة لوالدها الذي كان آنذاك من ضمن القلة التي تجيد القراءة والكتابة، فنقل إليها شيئاً من علمه قبل أن تلتحق كغيرها من صغيرات تلك الحقبة بأحد الكتاتيب التقليدية وهي في سن السادسة، حيث حفظت القرآن الكريم. ومع بدء العام الدراسي الثالث (1930 ـ 1931) بمدرسة خديجة الكبرى الابتدائية للبنات بالمحرق التحقت سكينة بها.

والمعروف أن افتتاح هذه المدرسة في سنة 1928 في بيت مستأجر بوسط المحرق من أملاك عبدالرحمن محمد الزياني شكل حدثاً تاريخياً كونها أول مدرسة بنات نظامية في البحرين وعموم أقطار الخليج العربية. والمعروف أيضاً أنه بعد 8 أشهر من افتتاحها أصبحت تضم 100 طالبة يدرسن القراءة والكتابة والخياطة والرسم على أيدي معلمات أتيحت لهن فرصة التدريس دون شروط تتعلق بالعمر أو المؤهل.

تقول سكينة عن ظروف التحاقها بهذه المدرسة: إنها حينما تقدمت للتسجيل فيها كانت مديرة المدرسة هي اللبنانية «عريفة سوبري» التي خلفت مديرتها الأولى السورية «فاطمة البياتي» فامتحنتها في اللغة العربية والقرآن الكريم، فوجدتها مؤهلة للانتقال إلى الصف الثالث ابتدائي مباشرة.

وتضيف: إن أولى معلمات المدرسة كانت المرحومة لطيفة يوسف الزياني التي تلقت علومها على يد شقيقها عبدالله، وأن المدرسة بدأت بفصلين ومدرستين (فاطمة البياتي ولطيفة الزياني) قبل أن تتغير الأحوال تدريجياً. ومما ذكرته أيضاً أن التحاقها بهذه المدرسة فتح أمامها آفاقاً كبيرة، خصوصاً مع دراستها لمادتي الجغرافيا والرياضيات وتعرفها على زميلات من بنات العائلات البحرينية المرموقة ومشاركتها في معرض الأشغال اليدوية السنوي وحفل نهاية العام الدراسي.

ولظروف وصفتها بالخاصة لم تبق سكينة في مدرستها سوى سنة واحدة، التزمت البيت بعدها، لكنها واظبت في هذه الأثناء على أمرين: تدريس شقيقتها الصغرى موزة محمد القحطاني كلما عادت إلى البيت من مدرستها، بل وحفظ ما تلقته من دروس. والتردد على مدرستها من حين إلى آخر لزيارة المديرة «عريفة سوبري» والاستفادة من علمها وطريقة حياكة الصوف وخياطة الملابس.

عادت سكينة في عام 1938 إلى مقاعد الدرس بعد انقطاع دام ست سنوات، وذلك مع انتقال مدرسة البنات من وسط المحرق إلى شمالها في مبنى حديث وتحت إدارة مديرة جديدة هي اللبنانية «وفيقة ناير» التي عرفت بإجادتها الانجليزية وإلمامها بالرسم والرياضة. في هذه المدرسة أكملت سكينة تعليمها وحصلت على الشهادة الابتدائية وشهادة القرآن الكريم ضمن الفوج الأول من الخريجات سنة 1942.

بعد تخرجها عينت مع بقية زميلاتها كمعلمات بمدرسة خديجة الكبرى لتبدأ مسيرتها في سلك التربية والتعليم والتي أمضت 15 سنة منها في هذه المدرسة عاصرت خلالها أكثر من مديرة وتخريج 12 فوجاً من الطالبات والكثير من الأنشطة المتنوعة والمواقف الحرجة.

وفي عام 1955 انتقل سكنها إلى القضيبية في المنامة فطلبت النقل إلى مدرسة هناك. وهكذا تركت سكينة المدرسة التي أمضت بها أحلى أيام عمرها كطالبة ثم مدرسة، لتعمل كمعلمة في مدرسة القضيبية المفتتحة حديثاً تحت إدارة المديرة «دعد الصواف» التي كانت في يوم من الأيام تلميذتها بمدرسة خديجة الكبرى.

واصلت سكينة عملها التربوي في مدرسة القضيبية على مدى ست سنوات وفي ظل 3 مديرات إلى أن تم تعيينها مديرة لمدرسة الحالة بالمحرق، حيث بقيت سنة واحدة نقلت على إثرها إلى مدرسة الخنساء بالمنامة فعملت مديرة لها لسنة واحدة أيضاً، ثم كانت خاتمة المطاف بتوليها إدارة مدرسة خولة بنت الأزور الابتدائية في القضيبية، حيث تولت تأسيس المدرسة وتنظيم صفوفها وأقسامها وإدارة نحو 1000 طالبة و27 فصلاً دراسياً و30 معلمة على مدى عشر سنوات انتهت في عام 1973 وهو العام الذي انتقلت فيه للعمل بمعهد النور للمكفوفين كرئيسة للأقسام الداخلية منتدبة من وزارة التربية والتعليم التي أمضت في خدمتها 37 عاماً.

تقول سكينة عن شعورها بعيد انتقالها إلى هذا المعهد، الذي تأسس بتمويل سعودي بحريني خصيصاً لأبناء الخليج من المكفوفين لتعليمهم القراءة والكتابة بطريقة بريل، إنها حزنت وبكت وأصابها الهلع خشية ألا تقوم بواجبها على الوجه الأكمل تجاه المحرومين والمحرومات من نعمة البصر، خصوصا ًوأنه لم يسبق لها العمل مع طلبة يصل أعمارهم إلى الأربعين. لكن ما حدث لاحقاً أنها تأقلمت مع الوضع لاسيما بعد أن اطلعت على تفاصيل المهام المناط بها من حيث الإشراف على السكن وعلى عمل القائمين على حياة الطلبة من حيث الدراسة والنوم والأكل والملابس والنظافة والترفيه وزيارة الأقارب وخلافه.

لم يكن عمل سكينة في المعهد مريحاً بسبب ظروف الطلبة الخاصة، ونقص الخبرة لدى الكوادر العاملة من مشرفين ومدرسين، ناهيك عن تواضع جاهزية المعهد آنذاك لمقابلة كافة احتياجات المكفوف وخاصة الصحية منها، ولهذا اقترحت على المدير الإقليمي لمكتب المكفوفين في الشرق الأوسط الشيخ عبدالله الغانم أن تذهب إلى القاهرة لاختيار عدد من الرجال المؤهلين والمتخصصين في تدريس وتدريب المكفوفين، فاستجيب لطلبها وسافرت واختارت هناك من رأت فيه الصلاحية وجلبتهم إلى البحرين فقاموا بدورهم خير قيام. وفي يوليو 1981 استغنى المعهد عن خدماتها من بعد 8 سنوات كرست فيها نفسها للعمل بتفانٍ وإخلاص وتحملت خلالها الكثير من المصاعب والإشكالات.

ويذكر أن سكينة كانت من ضمن السيدات اللواتي تطوعن للعمل في جمعية الهلال الأحمر البحرينية في عام 1971، كما أنها كانت ضمن من قمن بتأسيس نادي السيدات في عام 1952 الذي أغلق في غضون أشهر ليعود مجدداً في عام 1961 تحت اسم «جمعية رعاية الأمومة والطفولة». أما شقيقتها موزة فقد ولدت أيضاً في المحرق بعدها بسنتين (أي في سنة 1916) والتحقت بمدرسة خديجة الكبرى في سن الخامسة بتشجيع من والديها وشقيقتها سكينة التي تولت تحفيظها القرآن الكريم.

وفي مدرستها انخرطت في الأنشطة اللاصفية وفي فقرات حفل نهاية العام الدراسي التي كانت تتضمن القصائد والأناشيد والتمثيل المسرحي، كما تعرفت على بعض طلبة ومدرسي مدرسة الهداية الخليفية (أولى مدارس البحرين النظامية التي افتتحت بالمحرق عام 1919) ممن كانت مديرة مدرستها تستعين بهم في بناء خشبة المسرح، وكانت إلى جانب شقيقتها سكينة من اللواتي مثلن تمثيلية «الوصي الخائن»، حيث تقمصت هي دور «ليلى بنت النعمان» بينما تقمصت سكينة دور ثريا ملكة العجم.

في عام 1940 حدث ما أزعجها لدرجة أنها بكت، وذلك حينما اختارتها مديرة مدرستها «وفيقة الصواف» لتكون من ضمن معلمات المدرسة نفسها. إذ كانت تظن أن ذلك سيحرمها من مواصلة دراستها والحصول على الشهادة الابتدائية أسوة بزميلاتها، لكن المديرة طمأنتها بأن ذلك لن يؤثر على طموحها الدراسي وأنها سوف تتخرج كغيرها.

وهكذا كانت موزة ضمن أربع مدرسات يكبرنها بعدة سنوات، وانخرطت في سلك التعليم براتب شهري مقداره 25 روبية هندية، كانت تعطيه لوالدها ليغطي بها جزءاً من نفقات الأسرة.

استمرت موزة تعمل مدرسة بمدرسة خديجة الكبرى لمدة 7 سنوات ثم نقلت إلى مدرسة عائشة أم المؤمنين بالمنامة، حيث عملت لمدة 6 سنوات قامت خلالها بإنشاء جمعية مدرسية تحت اسم «جمعية نهضة الفتاة» لتعويد التلميذات على التمثيل والخطابة وإلقاء الأناشيد الوطنية والدينية وغيرها.

ومن هذه المدرسة نقلت لسنة واحدة إلى مدرسة القضيبية للبنات في المنامة. تلا ذلك، وتحديداً في عام 1962 إعارتها للعمل في أبوظبي كمعلمة في مدرسة أبوظبي الابتدائية للبنات، حيث أمضت 5 سنوات لتعود بعدها إلى وطنها وتعمل كمديرة لمدرسة النعيم بالمنامة لمدة 8 سنوات. وكان ختام مشوارها في العمل التربوي هو عملها كمديرة لمدرسة المتنبي الابتدائية للبنين التي أدارتها بكفاءة لمدة 18 سنة.

وفي هذه المدرسة أظهرت مواهبها التربوية بتشجيع من وزيرها آنذاك الدكتور علي محمد فخرو، حيث شرعت في تطبيق نظام معلم الفصل ونظام اليوم المفتوح واختارت للمدرسة ثلة من المعلمات من خريجات المعهد العالي للمعلمين، وأسست جمعيات مدرسية خاصة بالتمثيل والخطابة والصحافة والنشيد والموسيقى وحرصت على إقامة الحفلات المدرسية ومكافأة الطلبة المتفوقين بالجوائر، وإشراك الطلبة في خدمة المجتمع عن طريق جمع المعونات المادية والعينية وتوزيعها.

وقد أتيحت لها في هذه الفترة حضور العديد من الندوات والدورات التي أثرت خبرتها.

أما العام 1990 فقد شهد تقاعدها عن العمل من بعد 46 عاماً من الخدمة، فراحت تتعامل مع التقاعد بشكل طبيعي بعيداً عن أي معاناة سوى الإحساس بالفراغ الذي تغلبت عليه بالانشغال بتربية حفيدتها نور والعودة لممارسة هواياتها السابقة في القراءة والكتابة الأدبية والشعر، ناهيك عن المشاركة في الجمعيات الأهلية مثل جمعية نهضة فتاة البحرين وجمعية دار الحكمة وجمعية أصدقاء البيئة.

توفيت الشقيقتان سكينة وموزة، رحمهما الله، في 3 أكتوبر 1998 و11 سبتمبر 2011 على التوالي.