ضروريات الدبلوماسية الوقائية

ت + ت - الحجم الطبيعي

غني عن البيان أن العلاقات الأمريكية ــ الصينية تمر اليوم بأسوأ فتراتها في ظل التنافس الشديد بين البلدين، والحرب الدبلوماسية والإعلامية المشتعلة بينهما، الأمر الذي يشكل في مجمله خطراً كبيراً على الأمن والسلم الدوليين، خصوصاً وأننا نتحدث هنا عن أكبر قوتين اقتصاديتين وعسكريتين في العالم، مع الإقرار بأن اليد الطولى ــ من وجهة نظرنا ــ هي للولايات المتحدة، حتى وإن ردد البعض الكاره للغرب عموماً ما يخالف هذه الحقيقة من باب الأمنيات.

وبينما يجري الجيش الأحمر الصيني بشكل يومي مناورات عسكرية بالقرب من تايوان، ويسعى إلى تحقيق هيمنة صينية على البحار والجزر والممرات الملاحية المجاورة، وتقوم الحكومة الصينية بتعزيز علاقاتها مع روسيا الغارقة في حرب ضد الغرب وحلف الناتو، تجد واشنطن نفسها في وضع لا تحسد عليه، خصوصاً مع استمرار قطيعتها الدبلوماسية غير الرسمية مع بكين منذ عدة أعوام، وعدم انعقاد أي قمة بين رئيسيها منذ فترة، وهو ما يتناقض مع أساسيات الدبلوماسية الوقائية (preventive diplomacy) ويهدد بإلحاق ضرر بالجانبين معاً أكثر من نفعه.

ومن هنا فإن مراقبين كثراً وجدوا في لقاء مستشار الأمن القومي الأمريكي «جيك سوليفان» ووزير الخارجية الصيني «وانغ يي» في العاصمة المالطية، فاليتا، في 17 سبتمبر المنصرم، ومن بعده اجتماع وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن» مع نائب الرئيس الصيني «هان تشنغ» في نيويورك على هامش الدورة الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، محاولة من جانب واشنطن لكسر جبل الجليد مع بكين، وربما تهيئة الأجواء لعقد قمة أمريكية ــ صينية قبل نهاية العام الجاري.

فالبيان الأمريكي حول محادثات فاليتا وصف اللقاء بأنه «جزء من الجهود المستمرة للحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة، وإدارة العلاقة بشكل مسؤول»، بينما أعرب بلينكن في ختام محادثاته مع تشنغ عن اعتقاده بأن «دبلوماسية الوجه لوجه قادرة على حل الخلافات بين البلدين»، فيما قال تشنغ إن «العالم بحاجة إلى علاقة سليمة ومستقرة بين الولايات المتحدة والصين».

ويبدو أن الأمور حتى اللحظة تسير في الاتجاه الصحيح، ما لم يحدث طارئ يبعثر الأوراق.

إن على الزعيمين الأمريكي والصيني أن يعقدا قمة واحدة، على الأقل كل عام، للمضي قدماً نحو الأهداف ذات الاهتمام المشترك من تلك القابلة للتحقيق، ودراسة أي خلافات بين بلديهما بصورة واقعية، باعتبارهما مسؤولين عن أمن واستقرار العالم، والحد من مخاطر الحروب والتصعيد العسكري.

نقول هذا ونحن نعلم أن الخلافات بين الدولتين عميقة وتنافسهما شديد، وأنهما ينطلقان من منطلقات أيديولوجية متصادمة، لكن هكذا كان الحال بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق ــ إنْ لم يكن أسوأ بكثير ــ طيلة سنوات الحرب الباردة، ولم ينقذ العالم من تحول الحرب الباردة تلك إلى حرب عالمية ثالثة سوى قنوات التواصل المفتوحة بينهما، ولاحقاً الاتفاق على عقد قمم دورية بين زعيميهما لدرء انجرافهما نحو الصدام النووي.

ولسنا، في هذا السياق، إلى حاجة للقول بأن اجتماعات الزعماء على مستوى القمة هي من أعلى فنون الدبلوماسية، وبإمكانها أن تقرب وتفتح الكثير من الأبواب الموصدة، وتبدد الهواجس والشكوك. ذلك أن ما يقوله القادة عادة في مثل هذه القمم هو الذي يعكس موقف بلادهم السياسي بشكل أكثر عمقاً، وهو ما يعتد به وينظر إليه كموقف يتجاوز آراء المستشارين والوزراء.

وفي الحالة الأمريكية ــ الصينية، فإن كلاً من بايدن وجينبينغ هما وحدهما القادران، أكثر من معاونيهما ووزرائهما، على التعبير عن سياسات بلديهما، وهما وحدهما صاحبا الكلمة العليا في السياسة الخارجية لبلديهما، بل إن جينبينغ في حالة أفضل وأقوى على هذا الصعيد من نظيره الأمريكي بسبب طبيعة نظام الحكم في الصين من حيث عدم خضوعه للمساءلة البرلمانية والشعبية.

إن من شأن عقد قمم دورية أن تبقى خطوط الاتصال مفتوحة على كافة المستويات، بدءاً من البيت الأبيض و«تشونغنانهاي» إلى الوكالات الرئيسية والفرعية للحكومتين الأمريكية والصينية، ناهيك عن أن مثل هذه القنوات المفتوحة يمكن أن تساعد في التخفيف من حدة الخلافات والمواضيع الشائكة قبل أن تصبح معضلة يصعب حلها أو تجاوزها.

 

Email