للقارة السمراء حصة في أصيلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يأبى منتدى أصيلة الثقافي الدولي، إلا أن ينتصر للقارة السمراء، فلا يمر موسم من مواسمه إلا وتكون لأفريقيا فيه حصة معلومة.

والحصة المعلومة ليست في كل موسم جديد فقط، ولكنها أيضاً في أرض مدينة أصيلة نفسها، حيث تنام هناك على كتف المحيط الأطلنطي هادئة حالمة.

وإذا كنت أنت في أصيلة فسوف تمر على حديقة صغيرة تقع على يسار مدخل الجزء التاريخي من المدينة، فإذا اقتربت من باب الحديقة تبين لك أنها تحمل اسم الشاعر الكونغولي تشكايا أوتامسي، وإذا اقتربت أكثر من اللافتة التي تحمل اسمه، تطالع أشعاراً له منقوشة على لوحة رخامية، ومنها هذا الشطر الشعري الذي يقول فيه: الليل آت.. روحي متأهبة تماماً.

هذا عن حصة الأرض، فماذا عن الحصة الأخرى في فضاء موسم هذه السنة الذي لملم أوراق دورته الرابعة والأربعين في 26 من الشهر الماضي؟.

جرت الحصة الأخرى في قاعة الموسم على خطين، أحدهما راح يتطلع إلى منطقة الصحراء الكبرى، التي تمتد من شرق القارة السمراء إلى غربها، ثم يتساءل عن الطريقة التي يمكن أن تنتقل بها هذه المنطقة من مربع التفكك الذي يوشك أن يضرب بعض دولها إلى أفق السلام الدائم.

ومن الانهيار الذي يخيم كأنه الكابوس على البعض الآخر من دولها، إلى الإقلاع نحو عملية تنموية تنتظرها الصحراء الكبرى وتحتاجها؟. أما الخط الثاني فيتوقف أمام التفاعل الحاصل بين أفريقيا والغرب هذه الأيام، ويدعو إلى أن تغادر العلاقة بينهما ما كان في الموروث إلى ما يمكن في المأمول.

وحتى تكون المعاني محددة أمامنا، فلا نتحدث عن شيء وينصرف ذهن القارئ إلى شيء آخر، فإن الطرح النظري للمنتدى، يميز في الصحراء الكبرى بين مجالات إقليمية ثلاثة: الصحراء الشمالية الممتدة من غرب النيل وجنوب البحر المتوسط في مصر وليبيا والسودان، والصحراء الساحلية الممتدة من موريتانيا إلى دار فور، وصحراء الشرق الأفريقي الممتدة من الصومال إلى جنوب البحر الأحمر عبر جيبوتي.

والغرب الذي يعنيه المنتدى وهو يتعرض للشأن الأفريقي قسمان: قسم يضم الولايات المتحدة وكندا في أمريكا الشمالية، وقسم يضم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في القارة العجوز.

إذا كان هذا هو تصور الموسم الرابع والأربعين المنقضي لأصيلة، فربما يكون الموسم الخامس والأربعون في حاجة إلى أن يبحث في العلاقة بين أفريقيا والعالم على مستوى آخر، لا لشيء، إلا لأن علاقتها بالغرب إذا كانت مهمة، فعلاقتها بالروس والصينيين لا تقل أهمية، بل قد تكون أهم، لأن الصين كانت أسبق من الغرب إلى قارتنا في الأفق المنظور، ولأن الروس كانوا أسبق أيضاً إلى التفتيش عن مناطق في أفريقيا للسطوة والنفوذ.

الغرب أقدم في أفريقيا إذا ما قسنا الأمور على ما جرى في العصور القديمة، ولكنه عندما عاد في أيامه المعاصرة وجد الصين جالسة في القارة السمراء تنتظره، وصادف في سبيله الروس وهُم يسارعون إلى حجز مقعد في الأراضي الأفريقية.

وعندما وقع انقلاب النيجر صيف هذه السنة، كانت المفارقة أن حضور الروس لدى نظام الحكم الجديد بدا أقوى من الحضور الفرنسي بكثير، وكان الذين يخرجون في الشوارع النيجرية لتأييد النظام الجديد يرفعون أعلامهم الوطنية ومعها الأعلام الروسية.

ولم يجد الفرنسيون مفراً ليس فقط من سحب قواتهم الموجودة في العاصمة نيامي، ولكنهم سحبوا السفير مع القوات، وكان خروج السفير شهد نوعاً من الدراما السياسية غير المسبوقة، عندما أعلنته سلطات النيجر شخصاً غير مرغوب فيه وطلبت منه أن يغادر، فلما رفض المغادرة أسقطت عنه الحصانة الدبلوماسية وكلفت الشرطة بالتعامل مع الموضوع.

ولم يكن المشهد يخلو من هزيمة غربية نسبية في أفريقيا، بقدر ما كان تعبيراً عن هزيمة فرنسية تجرعتها فرنسا وكأنها تتجرع كأساً من السم، ولو اقتصرت المسألة على النيجر وتوقفت عند حدودها لهان الأمر على الفرنسيين ومن ورائهم الغربيون، ولكن حكومة إيمانويل ماكرون كانت من قبل قد واجهت في مالي وبوركينا فاسو بعضاً مما واجهته في النيجر.

وقد بدا المشهد في مجمله وكأن عملية من عمليات الإزاحة تتم في أفريقيا، لأن فرنسا كانت كلما غادرت موقعاً من مواقعها التقليدية في القارة اكتشفت أن موسكو تتقدم لتملأه وتتربع فيه، وكان الروس وكأنهم يخففون الضغط على الجبهة الأوكرانية، بفتح جبهة ثانية في الصراع مع الغرب، وكانت القارة السمراء ولا تزال هي الميدان المفتوح لهذه الجبهة الثانية!.

المغرب يحرص على محيطه العربي بالدرجة التي يقبض بها على امتداده في أفريقيا، وليس الحضور الأفريقي المتجدد في منتدى أصيلة سوى مرآة يتجلى فيها هذا الحرص على قدر ما هو متاح، ولا تزال في علاقة القارة بالعالم المتصارع عليها حلقات سوف تأتي، وفيها لن يكون الغرب بمعناه المشار إليه وحيداً يصارع أفريقيا وتصارعه، ولكنه سيكون مصارعاً بين مصارعين.

لم تحضر القارة السمراء في منتدى أصيلة، إلا لأن تجليات الحضور الغربي في أفريقيا كانت ولا تزال متنوعة، ولكن هذا الحضور يظل حلقة أضيق ضمن نطاق أوسع يضم الغربيين، مع الروس، مع الصينيين، وجميعهم يتصارعون فوق أرض واحدة، وهذا ما سوف يجدد انشغال المنتدى بالقارة في دورة مقبلة.

Email