مآلات القصف العشوائي في غزة

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيذكر التاريخ يوماً أن أم الخطايا التي أدت لتفاقم الصراع الدامي على أرض فلسطين، ومخاوف تدحرجه واندياحه إلى المحيط الإقليمي، انطلاقاً مما تسمع الدنيا وترى في غزة الآن، كانت تغييب حلول ومبادرات التسوية السلمية للمسألة الفلسطينية، استناداً إلى القانون الدولي والقرارات الأممية.

سيقال ذات يوم بأن القوى الفاعلة، ذات السطوة والنفوذ في «المجتمع الدولي»، والأطر التنظيمية الساهرة على إقرار السلم والأمن في عالمنا، مهدت سبلاً ورسمت خرائط طريق للتسوية، لكنها أودعت تطبيقها لطرفي الصراع وأوت إلى الظل.. متخذة مواقع المتفرجين وأدوار المحرضين أو الداعمين لأحد الطرفين..

حين تجلت نذر فشل هذا المشهد وعبثيته، لا سيما خلال الثلاثين عاماً الماضية، وصار نزيف الدم شلالاً، كان المطلوب ولعله ما زال، هو أن تدق هذه القوى على الطاولة، مفصحة عن رؤيتها لكيفية تنفيذ الحلول عملياً. الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة فيه متسع وخطوات تفصيلية لمثل هذا التصور.

لكي يحدث هذا السيناريو في سياق جولة الصراع العصيبة التي نعاين في هذه الآونة، ولا يمسي مجرد ذكرى يجري استحضارها بعد فوات الأوان، لا بد من تحقق شروط..

منها وأهمها بلا حصر، تخلي الفواعل الذين نقصد، وفي طليعتهم أعضاء مجلس الأمن الدائمين، عن إخضاع المسألة لبعض مخططاتهم وأجنداتهم الاستراتيجية وخلفياتهم الأيديولوجية وقناعاتهم العقائدية وانحيازاتهم السياسية.. هذا بالإضافة إلى أنسنة الحالة الفلسطينية، وتنحية شعبها وما تم إقراره له من حقوق، عن مزايداتهم ومناقصاتهم.

من دوافع الأسى والغضب أن عالمنا بعيد جداً عن التعاطي مع مثل هذه الوصفة، الأكثر معقولية ومنطقية لاجتراح التسوية.. ولنتأمل مثلاً، كيف أن كل الأرواح التي أزهقت مؤخراً على أرض فلسطين التاريخية، والحالة المأساوية لقطاع غزة، على مستوى يفوق خيال أي مبدع تراجيدي، لم تشفع لدى كبار مجلس الأمن لأجل التوافق على وقف ولو غير دائم لإطلاق النار، ناهيك عن اشتقاق سبل المضي إلى السلام الدائم.

الأنكى من ذلك أن الجولة الجارية شهدت انتكاس الشق الأكبر من خطابات أطراف الصراع المباشرين أولاً، ومداخلات قطاعات من القوى الداعمة لهم تالياً، إلى المفردات التي عهدناها في أيام الصراع الأولى، وبعضها يعود إلى أكثر من مئة عام.

كيف لا، وهناك من ارتدوا بذاكراتهم بعيداً إلى الخلف، مشيرين إلى أنهم بصدد تجدد الصدام الحضاري بمذاقه اللاهوتي القديم بين الشرق والغرب! ساعد على هذه التغذية الاسترجاعية غير البريئة وغذاها فيما يبدو، سرعة اصطفاف العواصم الغربية خلف إسرائيل، وعزل الصدام المتفاعل عن جذوره التاريخية والحقوقية..

وليس بلا مغزى في هذا الشأن، أن البعض لا يبالغ كثيراً حين ينظر باستهجان إلى الدور الأمريكي الصارم في تعزيز المعالجة الإسرائيلية بلا حدود.. ويصل به الحال إلى الدهشة والتهكم بالقول إنه لم يبق على الزعماء الغربيين عموماً، الذين تقاطروا تباعاً إلى «الشرق الأوسط»، سوى أن يضعوا الخوذات ويسجلوا الحضور في الميدان.

تقديرنا أن مثل هذا المشهد، بمحتوياته التي انطوت جهرة وخفية على خطوات متحيزة، لدعم أحد الأطراف مادياً ومعنوياً بشيكات على بياض، وتمت ترجمتها في تعطيل مداخلات مجلس الأمن، كان وما زال أقرب إلى الاحتشاد العاطفي المتعجل منه للمواقف المنطقية العقلانية المتأنية.

وهذا تموضع يقدم، من ناحية، مادة فعالة لتقوية معسكر من يوصفون بالتطرف في عموم المنطقة، ويبحر من ناحية ثانية بآمال التسوية السلمية بمسافة شاسعة عن شواطئ الأمان.

من شأن موقعة غزة، والواقع على هذا المنوال البالي، أن تضيف الكثير إلى تعقيدات الصراع على أرض فلسطين وضفافها الإقليمية.

. فما يقصف اليوم ويضيع هناك، بقسوة لا نظير لها ومن دون تدبر في العواقب، ليس فقط الكثير من الأنفس والثمرات، وإنما مبادئ القوانين الدولية العامة والإنسانية والقرارات والمبادرات السلمية الأممية، وأدوار الأمم المتحدة ومقامها الرفيع، ومصداقية بعض القوى الرابضة على قمة النظام الدولي.

والجهود التي بذلت مطولاً لإقرار السلم والأمن في رحاب منطقة شديدة الحساسية بالنسبة للأمن والسلم العالمي، وأشياء أخرى كثيرة يضيق المقام عن الاستطراد إليها.. فهل من مذكر ومستدرك؟!

Email