شخصيات تحت المجهر

ولي الدين أسعد.. رائد الابتعاث ومؤسس أول مدرسة سعودية بمصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدين الكثير من رجالات السعودية، ممن ابتعثوا إلى مصر في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن العشرين، بالفضل والعرفان لشخصية رائدة أشرفت على تعليمهم، وتابعت تحصيلهم، وذللت العقبات من طريقهم إلى أن تخرجوا في جامعاتهم وعادوا إلى وطنهم.

حديثنا هنا، الذي نعتمد في الكثير من جوانبه على ما نشره محمد بن عبدالله السيف في العدد رقم 551 من «المجلة العربية»، هو عن «ولي الدين أسعد»، الذي يعدّ من رواد البعثات التعليمية السعودية الأوائل ومن الذين كانت لهم بصمات لا تنسى على حياة العديد من الطلبة السعوديين المبتعثين إلى الجامعات المصرية ممن صار لهم شأن رفيع فيما بعد في مختلف أجهزة الدولة السعودية، بل هو من أوائل من أداروا الملحقيات التعليمية والثقافية السعودية في الخارج.

ولد «ولي الدين بن علي بن أحمد أسعد» في حي الساحة القريب من المسجد النبوي بالمدينة المنورة سنة 1903م، ابنا لأسرة رفيعة النسب من العلماء الأجلاء الذين مارسوا التدريس والإفتاء والإمامة والخطابة على مدى عقود من الزمن، ومنهم جده أحمد أسعد المولود بالمدينة سنة 1829، والذي تولى رئاسة الأئمة والخطباء في الحرم النبوي، وكان من الشخصيات رفيعة المقام في مجتمع المدينة المنورة.

وعند البحث عن نسب آل أسعد، نجد أنهم فرع هاشمي من العترة النبوية الشريفة من ذرية الإمام الحسين سبط الرسول (ص)، وأن جذورهم تعود إلى الوجيه عبدالله المدني، الذي عاش بالمدينة في القرن الخامس الهجري وكان أول من سكنها من السادة الرفاعية القرشيين.

أما جد آل أسعد الأكبر فهو الفقيه العلامة أسعد ابن أبي بكر الأُسْكـُداري (1057 ــ 1116 للهجرة) مفتي الأحناف في زمنه، والذي ولد بالمدينة بعد أن انتقل والده إليها للاستقرار، علماً أنه تلقى العلم على يد والده وعلى يد قاضي المدينة مكي أفندي، واستزاد علماً ومعرفة بالطواف على مصر وبلاد الشام، قبل أن يشتغل بتدريس الفقه والأحكام الشرعية في المسجد النبوي لمدة تجاوزت الأربعين عاماً.

وبالعودة إلى سيرة ولي الدين أسعد المتوفى سنة 1970، نجد أنه درس في كتاتيب المدينة المنورة التقليدية وحلقات المسجد النبوي.

وفي فترة لاحقة التحق بالمدرسة الرشدية (مدرسة أسسها الأتراك العثمانيون بالمدينة عام 1885م)، حيث تلقى علومه على يد عدد من العلماء ممن كانت مدينة الرسول تفاخر بهم من أمثال محمد الطيب الأنصاري وماجد بري ومحمد العـمري وماجد عشقي وغيرهم.

وفي عام 1928م كان صاحبنا ضمن 14 طالباً من طلبة البعثة التعليمية الأولى التي قررت مديرية المعارف العامة بمكة المكرمة إرسالها إلى مصر للدراسة في كليات القاهرة من أجل التخصص في التربية والعلوم الشرعية والزراعة والطب.

وكان من نصيب أسعد الالتحاق بكلية دار العلوم التي واصل دراسته فيها على نفقة أسرته، بعد أن تم إلغاء البعثة التعليمية بسبب الظروف المالية الصعبة التي عانت منها بلدان كثيرة في تلك الحقبة المضطربة. وهكذا تخرج الرجل من كلية دار العلوم في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، فصار من «الدرعميين» (أي الدار علوميين)، وهي صفة تطلق على خريجي هذه الكلية لتمييزهم عن غيرهم.

ومما يذكر عن أسعد أنه كان منذ يفاعته في المدينة المنورة شغوفاً بالقراءة الحرة والاطلاع، وعاشقاً للأدب والثقافة.

وحينما انتقل للدراسة في مصر واصل هذا التوجه، بدليل قيامه مع ثلة من زملائه المبتعثين بتأسيس ما عــرف بـ «ندوة الأدب العربي»، وهي جماعة أدبية وجدت التشجيع والدعم في تلك الفترة من أدباء وشعراء مصريين كبار في مقدمتهم أمير الشعراء أحمد شوقي وشيخ العروبة أحمد زكي باشا، ثم بدليل استثمار وجوده بمصر في زيارة أدبائها وشعرائها ومفكريها للتعرف عليهم والاستفادة منهم، وأيضاً لتعريفهم بمظاهر الحركة الثقافية والأدبية والصحافية في البلاد السعودية.

إلى ذلك، قام أسعد مع بعض زملائه بالمساهمة والمشاركة في تأسيس «جمعية الهداية الإسلامية» التي ترأسها شيخ الأزهر في الفترة من 1952 إلى 1954 العلامة محمد الخضر حسين (1876 ــ 1958).

كتب محمد السيف عن العوامل التي لعبت دوراً في تشكيل شخصية أسعد فقال: «ولا شك أن للأحداث التي شهدتها المدينة المنورة في طفولته وفي ريعان شبابه، والتحولات التي كان يمر بها العالم العربي، ودراسته في القاهرة، كان لها جميعاً دور كبير في تشكيل شخصيته وتكوين وعيه الثقافي والفكري، مما انعكس تالياً على حماسته الوطنية وتفانيه في خدمة بلاده».

بعد عودته من مصر إلى الحجاز، تم توظيفه مفتشاً تعليمياً بمديرية المعارف بمكة. وفي هذه المرحلة تعرف، من خلال عمله، على مديره محمد طاهر بن مسعود الدباغ (1897 ــ 1959)، وهو من رجالات التربية والإدارة والسياسة الأوائل في الحجاز، والشخصية الوحيدة الذي تجرأت فخاطبت الشريف حسين بن علي، باسم أهل الحل والعقد في الحجاز، طالبة منه التنحي عن الحكم لصالح ولي عهده الشريف علي.

وكان الدباغ قد عين في عام 1935 مديراً لمديرية المعارف في مكة بأمر من الملك عبد العزيز، بعد أن عاد إلى وطنه من منفاه الاختياري استجابة لنداء الملك إلى كل رموز العهد الهاشمي المهاجرين بالعودة للنهوض بوطنهم.

والمعروف أن فترة الدباغ في قيادة مديرية المعارف بمكة تميزت بنشر التعليم على نطاق واسع وتعديل المناهج الدراسية وتطويرها واستئناف إرسال البعثات التعليمية إلى مصر من بعد انقطاع. وهكذا حينما أراد الدباغ إيفاد البعثة الدراسية السعودية الثانية سنة 1936 لم يجد أفضل من ولي الدين أسعد ليسند إليه مهمة مرافقة البعثة والإشراف على شؤون طلبتها، نظراً لما وجده فيه من صدق وأمانة وإخلاص وجلد على العمل.

في القاهرة، وعلى مدى عقدين من الزمن، عمل أسعد مراقباً عاماً للبعثات التعليمية السعودية، باذلاً جهداً كبيراً في رعاية مواطنيه المبتعثين، وساهراً على راحتهم، ومتابعاً تحصيلهم، ومنظماً لشؤون ولوائح الابتعاث.

وفي الوقت نفسه كان يخدم مديرية المعارف السعودية لجهة تلبية كل احتياجاتها المتنامية مع توسيع رقعة انتشار المدارس في مختلف أرجاء البلاد السعودية. وفي هذا السياق كتبت ابنته «ثريا ولي الدين أسعد» في كتابها الموسوم «تاريخ باق وأثر ممتد» ما مفاده أن والدها كان يقوم، إلى جانب مهمته الأساسية، بأعمال أخرى مثل اختيار المدرسين المنتدبين للتدريس في السعودية، وتلبية الطلبات الواردة والخاصة بالكتب والمقررات والأدوات العلمية والقرطاسية.

لقد كان أسعد، في الكثير من الأحيان، يتخطى الرسميات والشكليات في تقديم خدمات شخصية لطلبة البعثات السعودية، ليست بالضرورة من صميم عمله، وذلك شعوراً منه بواجبه نحوهم في مجتمع جديد لم يألفوا بعد تقاليده وصرعاته.

من ذلك ما رواه الوزير والمستشار الراحل الدكتور عبد العزيز الخويطر في كتابه «وسم على أديم الزمن» من أنه زمن دراسته في القاهرة في الخمسينات مبتعثاً من الدولة اضطر للاستعانة بمدير البعثة ولي الدين أسعد لحل مشكلة توفير ملابس إفرنجية له ولزميله صالح الجهيمان كي يرتديانها في الجامعة، وذلك لضيق الوقت الحائل دون تفصيل ملابس بالمقاسات والألوان المناسبة، فأمر أسعد أحد موظفيه بمرافقتهما إلى شركة مصر للنسيج واختيار ما يناسبهما من بدلات جاهزة من مختلف الألوان والأشكال والقياسات.

ومما لا شك فيه أن جهود أسعد هذه كانت محل تقدير واستحسان رؤسائه، ولم تغب عن أنظار المسؤولين السعوديين، وهو ما تجلى في ترقيته إلى منصب معتمد المعارف السعودية بالقاهرة، ومع تضاعف أعداد الطلبة السعوديين كل عام، وعدم قدرة جامعة فؤاد الأول بالقاهرة على استيعابهم، تم إرسال بعضهم إلى جامعة فاروق الأول بالإسكندرية، وكان لأسعد دور في تأسيس ملحقية تعليمية سعودية بالإسكندرية ومتابعة نشاطها ودعمها بالخبرة والمشورة.

وبحكم منصبه، كلفته بلاده بتمثيل مديرية المعارف السعودية في اللجنة الثقافية بالجامعة العربية مع خير الدين الزركلي وعبد الرحمن البسام، حيث ساهم بعلمه وخبرته في إصدار التوصيات والقرارات الخاصة ببرامج التعليم في الدول العربية.

كما مثل بلاده في المؤتمرات العلمية التي عقدت في سوريا والعراق ومصر، وشارك في مؤتمر وزراء المعارف العرب الذي عقد في القاهرة عام 1951 برفقة مدير المعارف العام، الشيخ محمد بن مانع وعبدالله عبد الجبار.

أشرف أسعد إبان توليه منصبه التربوي والثقافي في مصر على تخريج أسماء مبتعثين معروفين ممن تسنموا أعباء مناصب رفيعة في الدولة وفي القطاع الخاص من أمثال: عبدالله الطريقي (وزير النفط) وحسن نصيف (وزير الصحة) وعبدالله محمد الدباغ (وزير الزراعة) وعبدالله الملحوق (السفير ورائد الصحافة) وعبدالله عريف (من رواد الصحافة) وعبدالله عبد الجبار (أديب وناقد وتربوي) وإبراهيم السويل (وزير الخارجية) وأحمد عبد الغفور عطار (أديب وشاعر)، وحمد الجاسر (علامة ومؤرخ) ومحسن باروم (أديب وتربوي ودبلوماسي) وعبد العزيز الخويطر (مستشار ووزير المعارف) وحامد دمنهوري (روائي وأديب وشاعر) ومحمد فدا (تربوي) وعبدالله الخيال (سفير) وعبد العزيز المعمر (سفير) وأحمد صلاح جمجوم (وزير التجارة) وحامد محمد هرساني (وزير الصحة).

وكانت آخر دفعة طلابية أشرف عليها هي تلك التي تخرجت مع حدوث التغيير السياسي في مصر في 23 يوليو 1952، وكانت تضم كلاً من: ناصر المنقور (وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء والسفير في عدد من الممالك) وعبد الوهاب عبد الواسع (وكيل وزارة المعارف) وأحمد زكي يماني (وزير النفط والثروة المعدنية) وإبراهيم العنقري (وزير الإعلام ووزير الشئون البلدية والقروية) وعبد الرحمن أبا الخيل (السفير ووزير العمل والشؤون الاجتماعية) وعبد الرحمن المنصور (وكيل وزارة العمل) وحسن المشاري (وزير الزراعة والمياه) ومحمد عبد الرحمن الفريح (الناقد والشاعر والملحق الثقافي لدى سوريا ولبنان)، وغيرهم.

في أواخر عام 1953 بويع الأمير سعود بن عبد العزيز ملكاً على البلاد السعودية خلفاً لوالده الملك المؤسس، فسارع إلى تشكيل مجلس الوزراء وتأسيس عدد من الوزارات الجديدة كان من بينها وزارة المعارف التي عـهد بحقيبتها إلى الأمير فهد بن عبد العزيز (الملك لاحقاً).

أراد الأخير وقتها الاستعانة بالخبرات والكفاءات الوطنية لتطوير أعمال وزارته الوليدة، فتوجهت أنظاره نحو ولي الدين أسعد، غير أن أسعد رأى أنه قدم كل ما لديه ولم يعد قادراً على تقديم المزيد، بل كان قد رتب أوضاعه حينذاك للبقاء في القاهرة إلى جانب بناته وأبنائه الدارسين في مصر، وبدء مشروعه التربوي الخاص، خصوصاً وأن عودته إلى السعودية كانت تعني انقطاع بناته عن الدراسة بسبب عدم وجود مدارس للبنات في المملكة في تلك الفترة.

وهكذا بقي أسعد في القاهرة التي دشن بها مشروعاً تربوياً رائداً تمثل في إنشاء «مدارس منيل الروضة الخاصة»، وذلك من أجل تلبية رغبات واحتياجات أبناء وبنات السعوديين المقيمين في القاهرة.

ولتحقيق هذا الهدف على أكمل وجه حرص على أن تتضمن مدرسته على قسم داخلي بالمراحل الدراسية الأربع (الحضانة والابتدائي والمتوسط والثانوي)، واختار لها مشرفاً صحياً من عائلته ونخبة من المعلمين والمعلمات الأكفاء، وهيأ لها بيئة تربوية نموذجية مع إيلاء اهتمام خاص بغرس الآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة والانتماء الوطني في نفوس طلبتها.

وبهذا العمل قدم أسعد خدمة جليلة للعائلات السعودية التي توافدت على مصر في الخمسينات للإقامة أو العمل، خصوصاً وأن مشروعه هذا كان ذا صبغة وطنية.

وفي هذا السياق ســجل عن أحد طلاب المدرسة وهو عبد الوهاب الزغيبي (ابن السفير السعودي الأسبق في القاهرة محمد المرشد الزغيبي) قوله: «لم تكن المدرسة عملاً تجارياً، بل كان هدفها تربوياً»، كما ســجل عن الشاعرة والأديبة السعودية «البتول محمد طاهر الدباغ»، التي درست بمدرسة منيل الروضة قولها: «كنا نعيش في مصر مجتمعاً مختلفاً، لكن عندما نذهب للمدرسة نشعر أننا انتقلنا إلى مجتمعنا السعودي الصغير، فلا نشعر بالغربة».

Email