قضية فلسطين.. التسوية غير المستحيلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يوماً تلو الآخر تكتسب نظرية «الأصبع الواحد» أنصاراً متزايدين لدى فقه الطب البشري، المعني بتجويد أساليب تشخيص الأمراض، الفكرة هنا ببساطة هو أن يطلب الطبيب المعالج من المريض الإشارة إلى موضع الألم الأساسي، بأقصى درجات التحديد ما أمكن وبأصبع واحد فقط، وذلك عوضاً عن الشكوى المطاطة الهيولية ذات الطابع العام، الأمر الذي يختصر الوقت والجهد في معرفة الداء ووصف الدواء.

إذا حاولنا تطبيق هذه النظرية، مع شيء من التصرف، بحسب مقتضى الحال بالطبع، على قضية «الصراع الإسرائيلي الفلسطيني»، أشار أصبعنا إلى ديمومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية القائم منذ عام 1967، وعدم التجاوب مع أشواق الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، وعاصمتها القدس على هذه الأراضي.

تعيين مصدر الداء بهذا المفهوم يناسب سيرورة الاشتباك الحاصل بين طرفي القضية المباشرين، وبالذات خلال حقبة ما بعد صيغة أوسلو المبرمة قبل ثلاثين عاماً، وهذا هو المعنى المقصود بتشخيص الصراع بأسلوب «الأصبع الواحد»، ثم معالجته استناداً إلى ما تم التوافق عليه قانونياً وسياسياً بين هذين الطرفين، وحظي بتصديق أطر التنظيم الدولي، والعدد الأوفر من المتداخلين الأقوياء.

في أوسلو، تم اشتقاق أسس ومسارات قانونية وسياسية لتسوية الصراع، على نحو كان يفترض منه أن يفضي إلى قيام دولة فلسطينية على 22 % من جغرافية فلسطين الانتدابية، ما يعني أن الهدف النهائي كان أضيق بكثير حتى مما عينته الشرعية الحقوقية الدولية للجانب الفلسطيني في قرار التقسيم الشهير لعام 1947، ولهذا قلنا في حينها مع بعض القائلين:

إن هذه الصيغة أتاحت فرصة لنتبارى أمام إسرائيل، للإفلات بما قررته لنفسها بحكم سياسة الأمر الواقع، وموازين القوى المختلة، وإنه إذا ما أهدرت تلك الفرصة فقد يرتد الصراع إلى مربعاته الأولى، حيث الاشتباك الدامي بلا حدود حول الروايات التاريخية والعقيدية والأيديولوجية، وهي الأبعاد، التي تم التخفف منها إلى حد كبير في أوسلو.

في اشتباك هذه الأبعاد وبنيته التحتية وحيثياته تصعب إلى أبعد الحدود الإشارة إلى الداء ووصف الدواء وفق فرضية «الأصبع الواحد»، ونحسب أن نذر هذه الحالة تتجلى راهناً، وبقوة في أفق القضية، لكننا نحسب أيضاً أن مقاربة التسوية بناء على هذه الفرضية أو الفكرة ما زالت احتمالاً قائماً رغم ما ناله بمرور الوقت من هجران وشحوب.

نود القول: إن المجالين الإقليمي والدولي مفعمان بالأدبيات القانونية والسياسية، العاطفة على شرعية ومشروعية قيام الدولة الفلسطينية، التي يمثل غيابها أصل الصراع ( الداء )، المستعر بخط بياني متقطع بين الصعود والرتابة والهبوط، منذ خمسة وسبعين عاماً.

وإنه لا توجد صغيرة ولا كبيرة من حيثيات قيام هذه الدولة وتقعيدها فعلياً، إلا ولها علاج حقوقي قانوني موصوف بدقة في قرارات ومبادرات الأطر التنظيمية لهذين المجالين، وعلى رأسها الأمم المتحدة بجلالة قدرها.

رب مجادل هنا بأنه لا جديد في هذا التناول، وذلك في ضوء فشل هذه الأطر مطولاً في تحقيق الهدف. هذا صحيح غير أن أصل هذا الفشل يكمن في منهج إيداع مسألة تطبيق هذه القرارات والمبادرات لطرفي الصراع بذاتيهما، وخطأ.

هذا المنهج، بل وربما كانت خطيئته، تجاهله لمبدأ أساسي من مبادئ القانون والقضاء الدوليين على الصعيدين النظري والتطبيقي، وهو أن القرارات والأحكام الدولية تصدر للإلزام والتنفيذ وعن تفاوض مسبق، وليس لكي يجري الاستغراق في التفاوض حولها مجدداً، ناهيك عن أن يكون هذا التفاوض اللاحق بين أطراف القضية بمعزل عن وساطة مسموعة الكلمة.

ولعل إحدى خصائص القضية الفلسطينية الاهتمام الفائض بمسارها، ومصيرها بين يدي مروحة واسعة جداً من القوى الفاعلة، والسائرة على طريق الفعل، في طول عالمنا الراهن وعرضه، التي يفرز معظمها مبعوث أو ممثل دائم خاص، للتعامل معها على مدار الوقت.

ويعزى ذلك إلى ما أضحى معلوماً بالضرورة من ارتباط القضية، المتفجرة في قلب العالمين القديم والجديد، بمصالح دولية تعز عن الحصر، غير أن هذه الميزة تظل بلا معنى وبلا فاعلية، وقد تمسي عيباً وعبئاً، يفاقمان الصراع، ويجعلانه يدور في حلقة مفرغة لعينة ومفزعة، طالما اكتفى هؤلاء الفواعل بالتأمل، وتصدير السياسات والمواقف والقرارات عن بعد، قانعين بمراعاة ومراقبة مصالحهم الذاتية، وبالمداخلات الموسمية الهادفة للتسكين والتهدئة لا أكثر.

Email