ما بين جنوب الهند وشمالها

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادة ما توصف الأقاليم الجنوبية في بلد ما بأنها متخلفة في أحوالها الاقتصادية والمعيشية والتنموية مقابل شمال مزدهر ومستقر، لكن الهند الراهنة أثبتت خلاف ذلك.

فعلى حين نجد أن ولاياتها الجنوبية تعيش حالة من الاستقرار والتناغم الاجتماعي معطوفة على ازدهار اقتصادي وصناعي بحيث صارت اليوم قلاعاً لتكنولوجيات البرمجيات وغيرها، نجد أن ولاياتها الشمالية تواجه الكثير من المشكلات وسط احتقانات محلية سياسية وثقافية واجتماعية وتعصب ديني وطائفي.

وعلى الرغم من هذه الحقيقة فإن جنوب الهند لا يحصل على مكافأة مالية مجزية على أدائها الجيد قياساً بما يحصل عليه الشمال، حيث تقوم الحكومة المركزية بجمع الضرائب من جميع الولايات ثم توزعها على ولايات البلاد بناء على توصية من لجنة مالية مختصة ووفقاً لمعايير الاحتياجات.

وهكذا فإن ولاية شمالية كثيفة السكان ومتأخرة في التنمية البشرية وفاشلة في الإنتاجية والحد من الانفجار السكاني مثل «أوتار براديش» تتلقى تمويلاً فيدرالياً أكثر مما تتلقاه الولايات الجنوبية ذات مؤشرات التنمية الأعلى. أضف إلى ذلك أن نسبة تمثيل ساسة الجنوب في الحكومة المركزية عادة ما تكون منخفضة.

في تفاصيل أوضاع الجنوب الهندي، نجد مثلاً أن بنغالور، عاصمة ولاية كارناتاكا، التي تعرف بوادي السليكون، تمثل ثلث صادرات البلاد من البرمجيات، فيما تشتهر ولاية «تاميل نادو» بالتصنيع وتمثل وحدها ثلثي صادرات الهند من السيارات، كما تشتهر جارتيها (أندرا براديش، وتيلانغانا) بكونهما مركزاً لصناعة الدواء، حيث تمثلان معاً نحو 22.5 بالمئة من جميع مرافق تصنيع الأدوية في الهند.

أما ولاية كيرالا التي باتت من معاقل صناعة السياحة وفرص العمل في الهند، فقد أصبح قطاعها السياحي مسؤولاً عن نسبة 10 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للولاية، ومسؤولاً في الوقت نفسه عن توفير نحو 24 بالمئة من فرص العمل بدليل تحولها في السنوات القليلة الماضية إلى مقصد للملايين من أبناء الشمال الهندي بحثاً عن وظائف ودخول أفضل.

إلى ما سبق، يمكن القول إن ولايات الجنوب الهندي بصفة عامة تتفوق على بقية الولايات الهندية لجهة الصحة والتعليم والفرص الاقتصادية والبنية التحتية المصرفية ومبادرات القطاع الخاص التنموية ومؤشرات التنمية البشرية. فمثلاً ولاية كيرالا لديها أعلى معدلات المعرفة والتعليم والتدريب المهني.

وإذا كان قياس ازدهار أي ولاية يعتمد على الناتج المحلي الإجمالي (GSDP) ونصيب الفرد من الدخل، فإن أربعاً من أصل خمس ولايات جنوبية مصنفة اليوم ضمن أفضل عشر ولايات هندية لجهة الأمن والتخطيط التنموي ودخل الفرد والبنية المعرفية الرقمية والموارد البشرية المؤهلة.

وحينما يبحث المرء في الأسباب والعوامل التي جعلت ولايات جنوب الهند متقدمة ومتفوقة على نظيراتها الشمالية، سيجد أن العامل الحاسم هو انشغال الجنوبيين بالعمل والتعليم واستخدامهما كسلاح لثورة اجتماعية يغيرون بها أوضاعهم نحو الأفضل، فيما ظل الشماليون يراوحون مكانهم بسبب انشغالهم العميق بالسياسة والعمل الحزبي والمسائل الدينية والطائفية.

ونجد تجليات ذلك في انتشار الجماعات الدينية القومية التي رسخت التمييز والطائفية والهويات الفرعية في سعيها للوصول إلى السلطة عبر عقلية القطيع ( a herd mentality) في التصويت، ما أدى إلى احتكار أحزاب بعينها للسلطة على مدى عقود دون تغيير.

ومثل هذه الحالة لا نجدها في الجنوب، حيث يسود تناغم اجتماعي وثقافي في ظل تعددية سياسية راسخة ومنافسة سياسية شريفة وتبادل سلس للسلطة المحلية، فلا نرى مثلًا أحداث عنف أو صعود جماعات متطرفة، ولا نرى احتكاراً طويلاً للسلطة أو الكرسي التشريعي، ناهيك عن بعد المواطن ــ بصفة عامة ــ عن تسييس ما لا يجب تسييسه.

والمعروف أن أجواء المنافسة السياسية الصحية، البعيدة عن المهاترات واللعب على العواطف وتأجيج مشاعر الجماهير دينياً أو طائفياً، تساعد الحكومات المنتخبة على الأداء بشكل أفضل، كما أنها تعزز مشاركة ونشاط المواطنين، ناهيك عن أنها تؤدي إلى جودة الحكم والإدارة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى التنمية والازدهار.

وفي التفسيرات الأخرى لأسباب الفارق بين جنوب الهند وشمالها، يبرز التفسير القائل بأن الأمر يُعزى إلى الطبيعة العرقية والثقافية للمواطن.

 

Email