مستقبل الإعلام والموازنة بين الحرية وحدودها

ت + ت - الحجم الطبيعي

تفصلنا أيام معدودات عن انطلاق منتدى الإعلام العربي الذي يقام هذه السنة تحت شعار «مستقبل الإعلام»، والثابت أن نادي دبي للصحافة منظم المنتدى كان منذ انطلاقه مواكباً لأهم التحولات التي شهدها ويشهدها قطاع الإعلام الذي أصبح يحدد بشكل كبير الأحداث والاتجاهات العامة لسياسات الدول.

وتأتي أهمية التساؤل حول مستقبل الإعلام والصحافة بمختلف وسائطها لتثري الجدل المتنامي حول الموضوع في ضوء تعاظم وجود الأشكال والاتجاهات الجديدة للإعلام وبالخصوص «صحافة المواطنة» وصفحات التواصل الاجتماعي، وهي اتجاهات أصبحت تساهم في صناعة مضامين ومحتوى الإعلام وفي توجيه الرأي العام ورسم السياسات.

ويفرق المهتمون بالشأن الإعلامي بين صفحات التواصل كامتداد طبيعي لرغبة المواطن العربي الجامحة في إعلام جديد يعبر بصدق عن واقعه المعيشي بعيداً عن الإعلام الرسمي، وأشكال ومحامل الإعلام الرقمي الجديدة التي تعتبر تطوراً طبيعياً للانفجار التكنولوجي.

وكذلك المساحة الكبيرة التي بدأ يحتلها الذكاء الاصطناعي في صناعة محتوى الإعلام، وهو الأمر الذي طرح ويطرح مشكلات عدة للإعلام التقليدي والحديث على السواء.

وكذلك طرح بجدية ضرورة حماية المجتمعات من مختلف التجاوزات، خصوصاً بعدما أصبحت «السوشيال ميديا» ظاهرة كونية وبلا حدود تقريباً، وأصبحت الإمكانية متاحة للمواطن وللمنصات الرقمية في نشر وبث كل ما يريده من معلومات ووثائق وغيرها.

وما قد يترتب على ذلك من تجاوزات وجرائم غير مسبوقة تحت يافطة حرية التعبير، خصوصاً وأن المشكل الأساسي الآن هو أن التطور التكنولوجي غير المسبوق حد من إمكانيات تدخل الحكومات في الفضاء الإلكتروني وخصوصاً في فضاء السوشيال ميديا.

وفي المقابل، فإن الإعلام الرقمي يطرح من جهته إشكاليات من نوع آخر مرتبطة أساساً بمدى التزام هذا الإعلام الجديد بضوابط وأخلاقيات المهنة الصحافية وبقواعدها المهنية.

وقد تعددت في هذا المجال فضاءات الحوار والجدل وساهمت في ذلك منظمة اليونسكو ونادي دبي للصحافة وبعض المراكز المختصة مثل «مركز حماية وحقوق الصحافيين» الذي نظم أخيراً لقاءً في الأردن طرح مواضيع عدة بينها، مسألة تداعيات «السوشيال ميديا» على الإعلام والمجتمعات.

وإذا بات من البديهي أن ظاهرة «السوشيال ميديا» ترتب وسيترتب عنها تحديات جديدة وغير مسبوقة، ما يستوجب أهمية تدخل الحكومات والدول من أجل تنظيمها والحد من التجاوزات وذلك لحماية المجتمع، وربما سيتطلب التطور الجديد في مجال «السوشيال ميديا» ضرورة وجود تنسيق دولي للحد من مخاطر استعمال الذكاء الاصطناعي في مجالات إجرامية بعيدة عن حرية التعبير والإعلام.

لأن الحكومات ستكون عاجزة بمفردها عن متابعة هذا الانفجار الإلكتروني مهما كانت إمكانياتها.

إذا كان هذا وضع ظاهرة «السوشيال ميديا»، فإنه من الضروري إخضاع الإعلام الرقمي إلى ضوابط المهنة الصحافية وخلق قنوات تواصل وتكامل بين هذا التوجه الجديد للإعلام والإعلام التقليدي، حتى يواصل الإعلام المهني عموماً القيام بدوره الوطني في تعزيز مقدرات الدول والمجتمعات.

ويشتد اعتقادنا كل يوم بأن مستقبل الإعلام المهني وخصوصاً الورقي منه، هو رهين قدرته على حصر محتواه في البحث والتحقيق والاستقصاء بعيداً عن الجانب الإخباري الذي لم يعد بإمكانه مجاراة الإعلام الرقمي فيه، بما يعني أن الاختصاص هو الشرط الأول للاستمرار، وأما عن الشرط الثاني لديمومة الإعلام المهني بمختلف وسائطه فهو مدى توفر الإطار التشريعي والمناخ السياسي العام الذي يكفل ممارسة فعلية لحرية العمل الصحافي، والشرط الثالث هو تحقيق التوازن والمعادلة بين الحرية والسعي إلى التنظيم.

وفي ما عدا ذلك فإن ظاهرة «السوشيال ميديا» وما يسمى بـ «صحافة المواطنة» التي تحركها حرية مطلقة للمنصات الرقمية وللأفراد والمجموعات وفق مصالحها، ستطغى على الإعلام المهني والإعلام العمومي أو المملوك للدولة الذي يفترض أن يعبر عن المصلحة العامة، وتفقد بالتالي الدول والمجتمعات وسيلة مهمة لتحقيق التنمية وضمان تماسكها.

* كاتب تونسي

 

Email