شخصيات تحت المجهر

مبارك الحديبي.. ناسج كلمات أجمل الأغاني الخليجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في السابع والعشرين من سبتمبر 2018 انتقل إلى جوار ربه مأسوفاً عليه أحد أبرز شعراء الأغنية الكويتية المعاصرة، وأكثرهم إثراءً للمكتبة الغنائية الكويتية لجهة كتابة كلمات الكثير من الأغاني العاطفية والوطنية والسامريات من تلك التي قوبلت بإعجاب كبير من لدن المستمع الكويتي والخليجي بصفة عامة، وذلك لسهولة لفظها ورقة معانيها وعذوبة مفرداتها وتماهيها مع تراث المنطقة العريق.

الحديث هنا عن المرحوم الشاعر مبارك الحديبي الذي انخرط في هذا المجال منذ ستينات القرن العشرين حينما كان شاباً يتلمس طريقه، وحتى تاريخ وفاته عن 72 عاماً بمستشفى مبارك ودفنه في مقبرة الصليبيخات.

ولد مبارك بن محمد راشد الحديبي في سنة 1946 بحي المرقاب ابناً لعائلة تنحدر من مدينة عنيزة بإقليم القصيم النجدي. وفي المرقاب نشأ وترعرع قبل أن تنتقل أسرته إلى منطقة حولي، حيث أكمل دراسته بمدرسة ابن زيدون الابتدائية ثم مدرسة حولي المتوسطة.

ويبدو أن ظروف عائلته الاقتصادية اضطرته إلى التوقف عن التعليم عند ذلك الحد للدخول إلى سوق العمل، فحصل في عام 1961 على وظيفة بوزارة الإرشاد والأنباء (وزارة الإعلام) الناشئة وقتذاك. غير أن الشاعر الأديب أحمد السقاف الذي كان وقتها من كبار موظفي الوزارة أوقفه عن العمل لصغر سنه، وقال له: «ارجع يا ابني وأكمل دراستك وتعليمك». وبطبيعة الحال حزن صاحبنا كثيراً لهذا الإجراء خصوصاً وأن العمل في تلك الوزارة تحديداً كان من ضمن أحلامه.

بعد عام من تلك الواقعة عاد الحديبي للعمل بوزارة الإعلام عن طريق «طبيب تسنين»، فشغل وظيفة فني مراقبة في الإذاعة الكويتية، ليصبح أحد أوائل مواطنيه الملتحقين بوزارة الإعلام الكويتية.

وقتها كان يشعر في قرارة نفسه أن لديه موهبة فنية كامنة، لكنه لم يكن قادراً على تحديدها، خصوصاً وأنه كان مستمعاً جيداً للغناء والطرب العربي الأصيل وصاحب ذائقة عالية في اختياراته. واستمر كذلك لبعض الوقت إلى أن قادته مكنوناته وأحاسيسه إلى التعبير عنها في صيغة أشعار، فراح يكتب الشعر السهل البسيط ويعرضه على صديقه أحمد الدخيل الذي شجعه على الاستمرار.

وشيئاً فشيئاً بدأ أصدقاؤه يتعرفون على موهبته في كتابة الشعر الغنائي. ثم جاء لقاؤه في دار الإذاعة الكويتية مع الفنان القدير يوسف الدوخي الذي أعجب بكلمات أغنية «ليلي أنا سهران» من نظمه فطلب الدوخي من لجنة النصوص بالإذاعة إجازتها فأجيزت.

تحول

كانت تلك نقطة فاصلة في حياة الحديبي نحو احتراف الشعر الغنائي. وتعد أغنية «أودعك» التي غناها الفنان الراحل حسين جاسم من ألحان عبدالرحمن البعيجان البداية الفعلية لانطلاقه في فضاءات الشعر الغنائي. إ

ذ تبعتها أغانٍ كثيرة من كلماته بأصوات كبار نجوم الغناء داخل الكويت وخارجها، وأنغام كبار الملحنين الكويتيين والخليجيين والعرب من أمثال غنام الديكان ويوسف المهنا وسليمان الملا وطلال مداح ومحمد الموجي وخالد الزايد والموسيقار الدكتور طلال ورابح صقر ومحمد شفيق ومحمد البلوشي وعلي عبدالكريم وأحمد عبد الكريم وعبدالله الرميثان وأنور عبدالله ومحمد المسباح وعبادي الجوهر وعبدالرحمن البعيجان وحسين عبدالله ومرزوق المرزوق وعبدالله الرويشد ورياض الهمشري وإبراهيم الحكمي.

كما وأن الحديبي ساهم بأشعاره أيضاً في صناعة وإشهار نجوم جدد من أمثال حسين جاسم ونبيل شعيل ومحمد المسباح، وترسيخ أسماء نجوم آخرين في دنيا الأضواء والشهرة.

وتشمل قائمة أعمال الحديبي نحو 900 قصيدة غنائية كان آخرها أغنية «عاش سلمان يا بلادي» الوصفية الوطنية التي عبر بها سماء الكويت إلى سماء السعودية سنة 2015. إذ تدهورت صحته، بعد ذلك وأدخل المستشفى، لكنه سمع الأغنية لاحقاً بصوت راشد الماجد وعبدالمجيد عبدالله وتلحين الموسيقار السعودي الدكتور طلال، وأعجب بها كثيراً.

وبحسب تصريحات ابنه الشاعر مشاري مبارك الحديبي فإن والده لم يكتب كلمات هذه الأغنية، التي لاقت استحساناً جماهيرياً منقطع النظير في السعودية وباتت تتردد في احتفالاتها السنوية بيومها الوطني، إلا من منطلق حبه للسعودية التي أمضى بها 18 عاماً، وإعجابه بشخصية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية، والقيادة السعودية.

أما الكاتب الصديق د. أحمد العرفج فقد تحدث في برنامجه الناجح «يا هلا بالعرفج» على قناة روتانا خليجية عن الأغنية فوصف كلماتها بأنها إنسانية راقية، ووصف صاحبها بأنه «عاش بسيطاً وكريماً ومتسامحاً، ومات شهيداً ونبيلاً».

وتشمل قائمة من تغنوا بكلمات وأشعار الحديبي: نبيل شعيل (أغنيات: «صادني» و«منك يا سمرة» و«البارحة» و«اللي ماله أول» و«جيتك» و«على خير» و«يا أنت واحد» و«أنا يا خلي» و«تغالط إحساسك» و«بليا أسباب» وغيرها)، عائشة المرطة: (أغنيتا «منسية» و«مباركين»)، غريد الشاطئ (أغنية «قلبي ارتجف» من ألحان خالد الزايد سنة 1973)، عبدالكريم عبدالقادر (أغنيات «شفتك» من ألحان طلال مداح و«سامحني خطيت» و«خليك معاي على الراي» و«توالي الليل» و«هقاوي» و«الله ياني ولهان» و«البارحة»)، نانسي عجرم (أغنية «ما أوعدك»)، رابح صقر (أغنيات «المزيون» و«يالله تفضل» و«حنا نكمل بعض»)، طلال مداح (أغنيات «إبعد وخلني» و«هذا إحنا» و«من الجفا» و«مصدر أحزاني» و«قضيت عمري»)، محمد عبده (أغنيات «انتو اللي تغيرتوا» و«حس طار» و«في عيونك» و«حاولت»)، خالد عبدالرحمن (أغنيتا «البارحة» و«عيدو الحبايب»)، نوال (أغنيات «فز قلبي» و«يزيد شوقي» و«مجرد شك» و«عنينا» و«ايشلون ما أشره عليك»)، عبدالله الرويشد (أغنيات «اسكت ولا كلمة» و«أشكي» و«الصدفة» و«الكبر لله» و«ليل السوالف» و«سيد المها»)، محمد المسباح (أغنيات «برد ودفا» و«ماني معاتبك» و«منتي منسية»)، راشد الماجد (أغنيات «ما اتصلتي» و«بيني وبينك» و«القمرة» و«عفناك»)، عبد المجيد عبدالله (أغنيات «هذا كلام» و«الهنا والسعادة» و«ألا يا دمعتي هلي»)، عبد الرب إدريس (أغنية «لا تمادي»)، أنغام (أغنية «أول ما أبدي»)، ديانا حداد (أغنيتا «نعم سيدي» و«كذاب»)، علي عبد الكريم (أغنيتا «يا سهيل يالجنوبي» و«أنت بقبلة وأنا بشوق»)، عتاب (أغنية «حبيب الروح»)، محمد عمر (أغنيتا «فقدناك» و«توادعنا»)، أحلام (أغنيتا «فوق ما تصور» و«ظنك الأول غلط»)، عبادي الجوهر (أغنية «بكلمة»).

وعد (أغنيات «وجهة نظر» و«ماني لعبة» و«جلسة»)، سليمان الملا (أغنيتا «داري خلي» و«تشان زين»)، محمد البلوشي (أغنيات «من صجه» و«ماكو إلا أنت» و«إنْ الله سلمني» و«مريت» و«لا ترجى»)، رباب (أغنيات «يا كثر ما اروح وأرجع» و«يا حره» و«مليت الصبر» و«لا تستغرب» و«شالو الشراع» و«حقك على الراس والعين»)، لطيفة التونسية (أغنية «صدقني»)، ذكرى (أغنية «لا ما هو واجد»)، مبارك المعتوق (أغنية «خلوني على كيفي»).

إلى ذلك تعاون الحديبي مع الفنان الكبير شادي الخليج فقدم له في عام 1976 كلمات أوبريت «يا سدرة العشاق يا حلوة الأوراق» التي لحنها غنام الديكان.

والجدير بالذكر في هذا السياق أن الحديبي استطاع أن يستوعب الموهبة اللحنية عند الموسيقار غنام الديكان وأن يوظفها لتطوير عدد من الأعمال التراثية الخاصة بالأعراس مثل أغنيتي «يا معيريس» و«عليك سعيد ومبارك» من غناء حسين جاسم في عام 1969، وأعمال أخرى عاطفية بإيقاعات غير مألوفة كما في الأغنيات التي أداها المطرب مصطفى أحمد مثل «ما دريت» و«قال أحبك» و«قلبي قلبي» و«يا عين مالية»، علاوة على أغنية «عمر الورد» التي لحنها محمد الموجي، ناهيك عن الأغنيات التي أشهرت المطرب حسين جاسم وما زالت تذاع إلى اليوم مثل «أحس بالشوق والغيرة» و«توني عرفتك زين» و«يا ويلك من الله».

ثلاثي ناجح

كما شكل صاحبنا ثلاثياً ناجحاً مع المطرب عبدالمحسن مهنا وشقيقه الملحن يوسف المهنا، كان من ثمرته أغنيات ناجحة بصوت عبدالمحسن المهنا مثل: «كلن بقلبه» و«على خير» و«حبيبي تمسكن» و«دار الهوى» و«هلي يا قمرة» و«نار الهوى» و«توافيج» و«قال أحبك» و«توا الناس»، علاوة على أغنية «مدري شسوي» التي يقول مطلعها:

مدري شسوي يا حبيبي بلياك

حكم الدهر ما خلى شي بديني

سافر عسى ربي يحرسك ويا قاك

لوهو بدينك ما تروح اللي فيني

وعن ذكرياته مع الملحن يوسف المهنا أخبرنا الحديبي في أحد حواراته الصحافية أن صداقة قوية ربطتهما وأنه كان يطلعه على محاولاته الشعرية المبكرة ويستشيره وكان المهنا بدوره يوجهه، لكنه لم يتعاون معه إلا مرة واحدة في تلك الفترة المبكرة، قبل أن يزيد اقتناعه به ويقدمان في عام 1975 أغنيتي «البارحة بالليل» و«ما أفكر ولا أحاتي».

استطاع الحديبي أن يشق طريقه بنجاح وسرعة، ويؤسس لنفسه مدرسة خاصة في الكلمة المغناة، وأن يجعل أنظار أهل الفن تتجه إليه كناسج لأجمل الكلمات وأعذبها، الأمر الذي سهل حصوله سريعاً على عضوية جمعية الفنانين الكويتيين منذ ستينات القرن الماضي، بل شارك في مجلس إدارة الجمعية لسنوات، قبل أن يحل عقد الثمانينات الذي تم فيه اختياره كعضو في لجنة إجازة النصوص في الإذاعة الكويتية.

ومن الأغاني التي كتبها وأداها الراحل طلال مداح من ألحانه أغنية «البارحة دورت في أوراقي القديمة» التي يقول مطلعها:

البارحة دورت بأوراقي القديمة

لقيت بقايا أوراق من قصة أليمة

لقيت أوراق وبقايا أشواق

قريت إهداء مكتوب فوق رسمها

لقيت أشياء تذكرني باسمها

لقيت أول حرف وآخر حرف

مكتوب بقلمها

2013

تم تكريم الحديبي قبل وفاته من قبل وزارة الإعلام الكويتية ومجموعة «تقدير» الشبابية التطوعية في عام 2013، ثم تم تكريمه بعد وفاته من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت العام الجاري من خلال دورة مهرجان القرين الثالثة والعشرين بحضور كوكبة من الفنانين والشعراء والأدباء والمسؤولين، حيث ألقى الأستاذ بدر الدويش الأمين العام المساعد لقطاع الفنون بالمجلس كلمة ثمن فيها الدور الكبير للفقيد في رفعة شأن الفن الكويتي، واصفاً إياه بالنموذج الطيب والصورة المشرفة للمواطن المحب لوطنه ولشعبه.

وخلال الحفل تم توزيع كتيب عنه من إعداد الباحث صالح الغريب اشتمل على صوره القديمة ونصوص أشهر أغانيه مع نوتاتها الموسيقية وشهادات قيلت في حقه من زملائه الفنانين والملحنين وشعراء الأغنية الكويتية.

كتب عنه مواطنه ذعار الرشيدي في جريدة «الأنباء» الكويتية (2018/10/6) فقال: «أعرفه كما عرفه كل من عاشره وعاصره وعمل معه أو التقاه بعمل. إنه شخص طيب جداً، بل إنه ووفق تصوري أطيب شخص يمكن أن تقابله في حياتك، وطيبته تلك تراها من تواضعه اللامتناهي والحقيقي، فرغم أنه صانع روائع غنائية شعرية نقلت بأصوات كل فناني الخليج إلا أنه يجلس معك وكأنه ليس ذلك الشاعر الغنائي العبقري الذي أثرى المكتبة الغنائية الخليجية بعشرات الأغاني الناجحة والساكنة قلوب الملايين.

إن رحيل الحديبي خسارة كبيرة ومدوية بل وفاجعة حلت على عالم الكلمة المغناة الخليجية، فقد خسر الوسط الغنائي الخليجي خصوصاً والعربي عموماً أحد عمالقة كتاب الكلمة الغنائية، فالراحل ترك إرثاً شعرياً حفظته قلوب الناس طوال 50 عاماً ودونتها حناجر المطربين وأصواتهم ووثقتها الأسطوانات في الستينات والكارترج والأشرطة في السبعينات والثمانينات والأشرطة الممغنطة في بداية الألفية واليوتيوب أخيراً».

ونختتم بما كتبه عنه المؤرخ والباحث الفني السعودي الأستاذ أحمد الواصل في جريدة «الرياض» السعودية (2018/10/3)، حيث قال: «أنزل الحديبي ترسانته كاملة، طيلة مسيرته في عالم الأغنية الكويتية، فقد كشف عن تملك متناهٍ لجذور التراث، حسب بيئاته البحرية والقروية، وأضاف إليهما صناعته لنموذج الأغنية الكويتية، منذ منتصف ستينات القرن العشرين الماضي. لقد استطاع أن يحقق أمرين: الأول: أنه عابر الأجيال والحدود، والثاني: تكوين ورش غنائية ثلاثية العناصر، ما بينه وبين ملحن وحنجرة. وحدث ذلك على مدى عقود رحلته في عالم الأغنية».

 

Email