أسباب تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمر العلاقات الفرنسية الأفريقية بمرحلة دقيقة للغاية، وتأتي الأحداث تباعاً لتؤكد أن فرنسا ما فتئت تخسر مواقعها التقليدية في القارة الأفريقية، ولم تقتصر هذه الخسارة على دول ومناطق جنوب الصحراء، ولكن فتور هذه العلاقات ضرب حتى علاقاتها مع بعض دول شمال أفريقيا التي ارتبطت تاريخياً بعلاقات وثيقة وجيدة معها استمرت بعد إعلان استقلالها.

ولا يبدو أن فرنسا متقبلة ومستوعبة بالكامل للتغييرات الجذرية الحاصلة في الوعي الجماعي لشعوب مستعمراتها السابقة، وهي شعوب أضحت رافضة تماماً لسياسات المستعمر السابق، التي يرون فيها تواصلاً للحقبة الاستعمارية، حيث تقدر هذه الشعوب والمجتمعات أن فرنسا حافظت على وتيرة استغلالها لخيرات هذه الدول من خلال تركيز حكام ومنظومات سياسية تابعة لها وتخدم مصالحها وتدين لها بالولاء المطلق، وواصلت فرنسا بالتالي التمتع بالامتيازات من خلال ربط مصالحها بمصالح هذه الدول، ومن خلال التهديدات بفتح ملفات «حقوق الإنسان»، وهي فيما تأكد خلال العشريتين السابقتين الأيديولوجية الجديدة لتكريس الوجود الاستعماري في المنطقة.

ويقدر الطيف المدني والسياسي في هذه الدول أن فرنسا أصبحت جزءاً أساسياً من المشكلة، حيث فشلت من جهة في مساعدة هذه الدول والمجتمعات على تحقيق شروط تنمية مستدامة تضمن لها التقدم والنماء والكرامة لمواطنيها، وهي أجهضت من جهة أخرى كل المحاولات لتركيز أنماط تنمية وطنية مستقلة عنها وقادرة على مراكمة الثروة، وعمدت مقابل ذلك إلى خلق أنظمة تنموية هجينة تحقق فقط مصالحها ومصالح المتعاونين معها، فعلى مدى السنوات تم تركيز اقتصاديات هشة في ضوء غياب حراك تصنيعي فعلي وغياب أسس بحث علمي بناء مقابل تغلغل الفساد والإفساد، وتركيز دول صورية بقوانين صورية وغير مجدية، وهي تراكمات تواصلت منذ ستينيات القرن الماضي واستمرت إلى الحد الذي لم تعد الشعوب الأفريقية تقبل به، وتجذرت حالة الرفض هذه لتتحول إلى احتقان أدى إلى انتفاضة ضد مصالح فرنسا ووجودها في القارة الأفريقية، وهو الأمر الذي تمت معاينته في دول الساحل الأفريقي، ومن ذلك مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى والغابون، رغم أنها حاولت تدارك الأمر في هذه الدول.

فرنسا أغفلت في هذا الخضم أن المنافسة على أفريقيا تعددت وتنوعت ولم تعد تقتصر على الغرب الاستعماري وأمريكا، بعد دخول دول أخرى على الخط، مثل الصين وروسيا.

وجاء الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق عدة في المغرب، وتحديداً منطقة مراكش، ليؤكد أن علاقات فرنسا مع عدد من الدول الأفريقية تمر بوضع دقيق وحرج، حيث مثل قبول المغرب بمساعدة أربع دول فقط، هي الإمارات العربية المتحدة وقطر وبريطانيا وإسبانيا، صدمة لفرنسا التي وقع استثناؤها من تقديم المساعدات، وخلق داخلها بالتالي جدلاً لم ينقطع إلى اليوم.

المغرب فيما يبدو استحضر مواطن الوجع في علاقته بفرنسا، ومن ذلك إصراره على تنفيذ مشاريع اقتصادية كبرى وفق مصلحته الوطنية بعيداً عن مصالحها، وهو الأمر الذي قد يكون حرك ما يُعرف بقضية «بيغاسوس» للتنصت، التي نفى المغرب علاقته بها، المغرب لم «يغفر» التحول النسبي لموقف فرنسا من قضية الصحراء المغربية في إطار المساعي لتطوير علاقاتها بالجزائر.

بدا واضحاً إذن أن فرنسا لم تقدر على مدى السنوات على مواجهة إرثها الاستعماري في عدد من دول جنوب الصحراء، وحتى في دول المغرب العربي، وهي إلى ذلك لم تتمكن من رؤية حجم الرفض لسياساتها في القارة، ولم تدرك أن هذا الوضع لن يدوم، وأن التحولات على المستوى الدولي باتجاه عالم متعدد الأقطاب سيشدد المنافسة على أفريقيا ودول الجنوب عموماً.

ولعل موجة المد اليميني وضعف بنية وهيبة الدول في فرنسا والغرب التقليدي لم تساعدها على التهيؤ لمثل هذه المتغيرات التي بدت لهم كعامل غير متوقع، وربما «غير معقول» بالنسبة لبعضهم.

إن الوعي السريع بهذه المتغيرات قد يحد من التداعيات السلبية لسوء الفهم هذا، لكنه لن يوقف الانتفاضة الشاملة ضد الوضع الخطأ ومختل التوازن.

 

Email