كتب الكثيرون عن العلامة حمد الجاسر، وصدرت حوله عشرات المؤلفات، لكن كل ذلك لا يكفي للتعرف على حياة وإنجازات هذه الشخصية الاستثنائية في عوالم الفكر والأدب والشعر والتربية والصحافة والرحلات والأنساب.. الرجل الذي قال عنه الكاتب السوري رياض نعسان الآغا إنه يجسد تاريخ بلاده وتحولاتها من مناخات التحدي إلى النعمة والعلم، وإنه يضيف للتاريخ أبعاداً معرفية عصرية دقيقة وصوراً اجتماعية حية تؤثر في فهم الماضي والحاضر وتساهم في رسم صورة المستقبل.
ولهذا يصعب تناول سيرته في مقال لتشعبها وغناها. وعليه فسنكتفي هنا بالتوقف عند محطات معينة في سيرته، تاركين لمن يريد المزيد العودة إلى الكتب التي صدرت عنه.
ولد حمد محمد جاسر علي آل جاسر الحربي في 1 يناير 1910 بقرية «البرود» القصيمية في المملكة العربية السعودية، ابناً لأسرة فقيرة منهكة مادياً ومثقلة بالديون. ونشأ ضعيف البنية كثير المرض إلى درجة أن أسرته كانت تتوقع وفاته في أية لحظة، لذا جـهز له قبراً أكثر من أربع مرات، لكن الحياة كانت تدب فيه في كل مرة فيستخدم القبر المحفور لدفن غيره.
وبسبب مرضه وهزاله لم يحسن المشي إلا في سن الرابعة، كما أنه للسبب ذاته لم يستطع مساعدة والده في فلاحة الأرض على غرار إخوته، ما جعل جده لأمه يختاره لمساعدته في إمامة مسجد القرية. وبعد فترة أرسله والده لتلقي العلم في كتاب تقليدي بقرية «حزمية» المجاورة لقريته، حيث حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة.
وفي عام 1923 رحل إلى الرياض التي تعلم فيها شيئاً من الفقه والتوحيد على يد أحد أخوال أبيه، لكنه ما لبث أن عاد في السنة التالية إلى قريته بسبب اشتداد المرض على والده، وبعد وفاة الأخير سنة 1925 تقريباً تكفل جده لأمه علي بن عبدالله بن سالم برعايته وتوجيهه.
وكان من ثمار تلك التربية أن انتدب وهو في الثامنة عشرة ليعلم أمور الدين لبدو رحل، فكان ينتقل معهم أينما حلوا. على أن هذا لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما اشتاق للتحصيل العلمي فسافر إلى مكة ليلتحق فيها بالمعهد العلمي السعودي ويتخرج منها سنة 1935 متخصصاً في القضاء الشرعي.
في ريعان شبابه، وتحديداً في رحلته الثانية إلى الرياض للدراسة والتحصيل زاول الجاسر عدداً من الأعمال، ومنها عمله قاضياً في إحدى الهجر، ومعلماً في قصر الملك عبد العزيز لعشرين من رجال وشباب القصر، وإماماً لصلاة التراويح في مسجد القصر، وناسخاً لبعض الرسائل والنصائح وأدعية ختم القرآن.
لكن بعد تخرجه من المعهد العلمي عمل مدرساً في ينبع، واستمر في ذلك حتى عام 1938 وهو العام الذي انتقل فيه إلى سلك القضاء ليعمل قاضياً في ضبا بشمال الحجاز، غير أنه حصل على بعثة حكومية في عام 1940 إلى مصر ليكمل تعليمه في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول فسافر إلى هناك. وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية آنذاك لم يكمل تعليمه بمصر وعاد إلى وطنه. ربما كان بإمكانه العودة مجدداً إلى مصر لاستكمال تعليمه بعد انتهاء الحرب، لكنه لم يفعل.
ويبدو أنه أدرك آنذاك ــ طبقاً لمقابلته مع جريدة الأسبوع الأدبي السورية (6/3/1999) ــ أن محافل العلم وكلياته ليست سوى وسيلة للاستزادة منه فحسب، وأنه بإمكانه أن يعتمد على جهده الشخصي وموهبته وفهمه وتجربته في جمع ما يهمه ويحتاجه من معلومات من الكتب والمراجع عبر البحث والتدقيق والتمحيص والتصحيح والشرح.
بعد عودته من مصر شغل منصب مدير التعليم في نجد، قبل أن يعهد إليه في حدود عام 1950 إدارة كليتي الشريعة واللغة العربية اللتين شكلتا النواة الأولى لجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. وأثناء فترة إدارته للتعليم بنجد أسس في الرياض أول مكتبة لبيع الكتب باسم «مكتبة العرب» وأشرف بنفسه عليها وعلى ما كان يعرض فيها من مؤلفات حديثة.
ويقول أحد الذين لازموه كالظل في فترة من فترات حياته وهو الدكتور عبدالله عبد الرحيم عسيلان (عضو مجلس الشورى السعودي الأسبق) في كتابه عنه الموسوم بـ «حمد الجاسر وجهوده العلمية» أن الظروف حملت الجاسر أثناء دراسته وإقامته بمكة على الالتحاق ببعض الأعمال المؤقتة.
تزوج الجاسر في أربعينات القرن العشرين من هيلة بنت عبد العزيز العنقري التي أنجبت له أولاً مي التي لم تعش سوى أشهر معدودة، ثم مي الثانية التي ولدت في الطائف فمحمد الذي فقده في حادث تحطم طائرة في لبنان سنة 1975. بعد ذلك رزقه الله بهند وسلوى ومعن ومنى.
عمل بالصحافة والنشر وكانت أولى إسهاماته الصحافية في مطلع الثلاثينات حينما كان يدرس الثانوية في المعهد العلمي بمكة، حيث رصدت له حينذاك مقالات أدبية واجتماعية ونقدية ومشاغبات لكبار أدباء تلك الحقبة، قبل أن يتجه إلى نشر نتاجه الشعري بدءاً من عام 1932.
كانت نظرة الجاسر إلى الصحافة أنها وسيلة تبصير للمجتمع قبل أن تكون وسيلة لنقل الأخبار والأحداث، ومن هذا المنطلق أدرك أن العمل الوظيفي لا يلبي تطلعاته ولا يتناسب مع طموحاته، فاختار العمل الصحافي.
كانت البداية في سنة 1952 في عهد الملك عبد العزيز حينما اتصل بولي عهده الأمير سعود طالباً ترخيصاً لإصدار أول صحيفة في نجد باسم «الرياض»، فجاءته الموافقة من قلم المطبوعات بوزارة الخارجية بأن تصدر الجريدة شهرياً إلى أن تصبح أسبوعية، لكنه أصدرها باسم «اليمامة» في العام نفسه، وطبع أعدادها الأولى في مصر ثم جدة ثم لبنان، الأمر الذي أدخله في متاعب مع مستشار الديوان الملك وقتذاك الذي أصدر أمراً يمنع دخول الصحيفة إلى السعودية إلا بعد تغيير اسمها كما ورد في الترخيص. وقد حاول الجاسر توسيط وكيل وزارة الخارجية آنذاك لإعادة النظر في الأمر، إلا أن جهودهما باءت بالفشل، فأيقن الجاسر من تلك اللحظة أن مهنة الصحافة هي بالفعل مهنة المتاعب.
وعلى الرغم من ذلك فإنه بما عرف عنه من عدم اليأس، واصل إصدار صحيفة اليمامة على مدى عشر سنوات حفلت بالكثير من التحديات الإدارية والفنية والرقابية والمالية إلى أن توقفت نهائياً عام 1964 على إثر صدور نظام المؤسسات الصحافية (كبديل لنظام المؤسسات الصحافية الفردية) والذي بموجبه ظهرت مؤسسة اليمامة الصحافية، وتحولت اليمامة من صحيفة إلى مجلة.
ومن إسهامات الجاسر الأخرى قيامه في عام 1955 بتأسيس أول دار للطباعة في نجد كي تغنيه عن طباعة صحيفته في الخارج، وفي عام 1966 أسس «دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر» التي أخذت على عاتقها إصدار مؤلفات كثيرة للكتاب السعوديين، وفي الأول من مايو 1965 أطلقت مؤسسة اليمامة الصحافية جريدة الرياض اليومية (أول جريدة تصدر في الرياض)، لتتبعها في العام نفسه مجلة «العرب» الفصلية المتخصصة في تاريخ وأدب الجزيرة العربية، والتي وجد فيها نفسه.
علاوة على ذلك، أسس «مؤسسة حمد الجاسر الخيرية» بهدف الحفاظ على إرثه الثقافي ونشر إنتاجه الأدبي والمعرفي، وخدمة الباحثين والدارسين في مجالات تخصصهم المختلفة. وفي عام 1961 صدر أمر بإيقافه عن العمل في «اليمامة».
وقال الجاسر متحدثاً عن هذه الواقعة (بتصرف): «كنت عند صدور هذا الأمر في بيروت، فأُبْلغتُ به، فبقيت سنين مقيماً في لبنان، حتى تولى الملك فيصل رحمه الله الحكم، ورغب مني العودة، فتريثت فوقعت الحرب الأهلية اللبنانية التي لاقيت خلالها الأمرين، إلى أن خرجت وعدت إلى الرياض».
هذا علماً بأن الجاسر خلال سنوات إقامته في لبنان كون لنفسه مكتبة زاخرة بأمهات الكتب، لكنها احترقت خلال الحرب مما شكل له صدمة نفسيه جعلته يقول: «بكيت على كتبي المحترقة، أكثر من بكائي لاحتراق ولدي محمد في الطائرة». وقد لخص الرجل أهم المحطات المفصلية في حياته في كلمات بسيطة فقال: «الملك عبد العزيز أنقذني من الجهل، والملك فيصل من السجن، والملك خالد من المرض».
يروى أن اهتمام الجاسر بالبحث والتنقيب في التاريخ والجغرافيا والمواقع والأنساب بدأ بحكاية حدثت له عام 1935 حينما كان مدرساً في ينبع، حيث كان يشرح لطلبته أحد أبيات أبي العلاء المعري التي وردت فيها الإشارة إلى موقع «رضوى» فقال لهم معتمداً على مطالعاته في المراجع أن رضوى جبل قريب من المدينة سهل المرتقى فرد الطلبة بصوت واحد «لا يا أستاذ.. إنه الجبل الأسود الذي نشاهده من النافذة». يقول الجاسر تعليقاً على ذلك: «فخجلت من نفسي، وأدركت أنه لا خير في أستاذ يكون طلابه أعرف منه».
وهكذا كانت هذه الواقعة دافعاً له للانصراف إلى دراسة جغرافية الأماكن والأنساب والتقصي ميدانياً عن المواقع من خلال القراءة والسؤال والتنقيب في القصائد الشعرية ذات الصلة ودراسة الأنساب والقبائل وتفرعاتها وهجراتها، ناهيك عن الترحال باستخدام الجمال والدواب أو المشي على الأقدام، فكانت المحصلة عشرات المؤلفات والأبحاث والدراسات التي أثرت بشكل فعال وإيجابي في داخل السعودية وخارجها، وصارت قيمة فكرية وعلمية يسترشد بها الدارسون والباحثون كنموذج للتحقيق والتوثيق وإيصال المعلومة بأمانة مع التحليل والتعليل العلميين.
أنجز الجاسر العديد من المؤلفات القيمة، ومن أبرزها: «المناسك وتحديد أماكن الحج»، «معالم الجزيرة»، «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية» (صدر في ثمانية أجزاء، وبواحد وعشرين مجلداً)، «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد». إلى ذلك رصد مركز حمد الجاسر الثقافي في كشافه الصادر عام 2007 ما مجموعه 3000 عنوان لمقالاته وبحوثه التي نشرها في اليمامة، ومجلة العرب، والصحف المحلية والعربية.
ومن كتبه التي صدرت بعد وفاته بمستشفى في الولايات المتحدة، 2000 كتاب «من سوانح الذكريات» والذي قال عنه د. عبد الرحمن الشبيلي، في صحيفة الشرق الأوسط (11/4/2016): «عدت السوانح واحدة من أنفس الذكريات والسير الذاتية في الأدب السعودي، ومن أفضل ما كتب في وصف البيئة المحلية في فترة تأسيس السعودية، عن الحياة في عموم مناطق البلاد، وعن بيئة البادية والحاضرة، وأحوال القرية وزراعتها ومعيشتها وملابسها وتعليمها واقتصادها، وذلك لجمال الأسلوب، وسلامة العبارة، وبلاغة الكلمات من دون تكلف، وتدفق الأفكار، ودقة التوثيق، وشفافية التشخيص، وصراحة القول والشهادة والأحكام».
منحته بلاده جائزة الدولة التقديرية عام 1984، وحصل على وسام التكريم من مجلس التعاون عام 1990، ووسام الملك عبد العزيز خلال مهرجان الجنادرية عام 1995. وفي عام 1996 منحته جامعة الملك سعود الدكتوراه الفخرية، ونال جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، وجائزة سلطان العويس الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي.