يكاد الغناء السوداني أن يكون الوحيد من بين الفنون الموسيقية العربية التي لم تنتشر بين المستمعين العرب، ولا يوجد له جمهور عريض خارج السودان، وذلك خلافاً لحال الأغنية المصرية واللبنانية والخليجية وحتى المغاربية. ولا نعتقد أن اللهجة هي الحائل، خصوصاً أن اللهجة السودانية ليست معقدة أو صعبة في الغالب الأعم من مفرداتها.
ربما كان السبب في عجز الأغنية السودانية عن عبور الحدود هو إيقاعاتها الأفريقية الخاصة التي لم يتعود المستمع العربي عليها، خصوصاً أنها تستخدم السلم الموسيقي الخماسي بدلاً من السلم الموسيقي السباعي الشائع، أو ربما كان السبب هو ضعف إمكانيات الإعلام السوداني لجهة نشر الفن الموسيقي لهذا البلد العربي العزيز وتسليط الأضواء على رواده ورموزه، الأمر الذي لم يتعرف معه الجمهور العربي إلا على اسم سوداني يتيم هو الفنان «سيد خليفة» صاحب أغنية «البامبو سوداني»، التي لم تشهرها وسائل الإعلام السودانية بقدر ما كان الإعلامان المصري والخليجي سبباً في شهرتها وشهرة صاحبها.
في عام 1960، حينما شهدت مصر احتفالات مشروع بناء السد العالي ذي التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية على القطرين المصري والسوداني بحكم ارتباط مصيرهما بنهر النيل الخالد، ناهيك عن تأثير المشروع تحديداً على حياة أبناء النوبة الذين يشتركون مع الشعب السوداني في قواسم ثقافية واجتماعية وفنية وتراثية عدة، قررت الدولة المصرية وقتذاك إقامة حفل فني ساهر في الخرطوم بمشاركة ثلة من نجوم الطرب والغناء المصريين المعروفين، خصوصاً أن الحدث تزامن مع احتفالات السودان بـ«أعياد الثورة» في إشارة إلى انقلاب الفريق إبراهيم عبود سنة 1958.
وهكذا شهدت مدينتا الخرطوم وأم درمان في نوفمبر 1960 سبع حفلات غنائية على مسارحهما شاركت فيها بعثة «أضواء المدينة» التي تكونت من صباح وشادية ونجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالمطلب والثلاثي المرح والفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن، علاوة على وفد إعلامي من الإذاعة المصرية بقيادة المذيع جلال معوض والمذيعة سامية صادق صاحبة برنامج «الأسرة البيضاء».
ما يهمنا هنا هو أن شادية فاجأت الجمهور السوداني بظهورها على المسرح مرتدية الزي التقليدي لنساء السودان. وبعد أن غنت لهم مجموعة من أجمل أغانيها الشائعة آنذاك مثل: «لا يا سي أحمد» (كلمات سيد مرسي وألحان محمد فوزي)، «أحب الوشوشة» (كلمات حسين السيد وألحان رياض السنباطي)، «القلب معاك»، «إنْ راح منك ياعين»، «ألو ألو» (كلها من كلمات فتحي قورة وألحان منير مراد)، فاجأتهم بأغنية أعدت خصيصاً للشعب السوداني.
لم تكن تلك الأغنية التي امتزج فيها الصوت المصري بالموسيقى السودانية، سوى أغنية «يا حبيبي عد لي تاني.. خلي عيني تشوف مكاني» الرقيقة التي صاغ كلماتها بذكاء الشاعر الغنائي المرح فتحي قورة، ووضع ألحانها المبدع منير مراد مستخدماً موسيقى السلم الخماسي ومستعيناً بآلات الموسيقى الأفريقية مثل الوتريات والدفوف والطبل والخشخيشة.
أخبرتنا الكاتبة ناهد صلاح بجريدة «اليوم السابع» المصرية، عن أن تجربة شادية هذه في الغناء للسودان لم تكن الأولى، حيث كتبت: إذا كانت «يا حبيبي عود لي تاني» علامة بارزة في رصيد شادية الغنائي، بما احتوته من مزج مصري/ سوداني، فإنها قد سبقتها بتجربة أخرى في فيلم «بشرة خير» إخراج حسن رمزي، والذي عُرض في أبريل 1952 أي قبل قيام ثورة يوليو بثلاثة أشهر تقريباً، كما لو كانت نبوءة الثورة يبشر بها فيلم رومانسي بسيط، غنت فيه شادية أغنية «النيل» من تأليف جليل البنداري وألحان حسن أبوزيد: «يا جاي من السودان لحد عندنا/ يا للي تمر من أسوان والقلة من قنا/ يا نعمة من السودان بعتها ربنا/ ومن عمر الزمان وأنت بقلبنا». وفي الفيلم نفسه شاركت مع ثريا حلمي في أوبريت «مصر والسودان»، تأليف السيد زيادة وألحان حسن أبوزيد، حيث مثلت الحضور المصري، بينما مثلت ثريا حلمي الحضور السوداني، وهو أوبريت يستنهض الهمة ويسعى لتأكيد الأخوّة بين الشعبين المصري والسوداني، وضرورة كسر الحواجز بينهما.