المهاجرون وعصابات التهريب الإجرامية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من غرائب ملف الهجرة غير الشرعية إلى الرحاب الأوروبية،اضطلاع معظم المهاجرين والدول التي يقصدونها، بسلوكيات وتصرفات ومواقف تستعصي على التفاسير العقلانية. مؤخراً، لم تعد تمر بضعة أسابيع على أقصى تقدير، دون أن تصدمنا الأخبار بوقوع حادث غرق لواحد أو أكثر من قوارب الهجرة، في موقع قريب أو بعيد نسبياً من شواطئ المتوسط الجنوبية أو الشمالية، وغالباً ما يتم الإعلان عن فقدان ضحايا، يتحول من لم تسعفه منهم فرق الإنقاذ حياً أو تنتشله ميتاً إلى وجبة للأحياء البحرية.

لا يمكن الادعاء بأن المهاجرين غافلون بالمطلق عن التفصيلات المؤلمة لهذا السيناريو المتكرر برتابة مملة.. ونحسب أيضاً أنهم يعلمون بأن معظم من يكتب لهم النجاة من مغامرة السفر على متن مركب متهالك، برعاية عصابات تهريب إجرامية، بقلوبهم ومعسكراتهم وسياساتهم وإجراءاتهم التي تصفها بعض المنظمات الإنسانية، مثل أطباء بلا حدود، بالغلظة والوحشية وانعدام الضمير.. ومع ذلك، فإنهم، أي المهاجرون، يتقاطرون بالمئات والآلاف من جنوب الصحراء الأفريقية وشمالها، إلى ما يتيسر لهم من منافذ يظنونها آمنة للإبحار نحو أوروبا !.

القصد، أن درايتهم بالأخطار المحيطة بهذه الرحلة البائسة، لم تردع المهاجرين ولا جعلتهم يراجعون أنفسهم ويفكرون ألف مرة قبل اتخاذ قرارهم المصيري. وعليه، يصح الزعم بأن أحلام الإفلات من براثن البطالة والفاقة والعوز الاقتصادي، المعطوفة على نوازع وتصورات أخرى مساعدة، كفرص الحياة الكريمة المتحررة من ربقة الفساد والفقر والجوع، وغياب الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المواطن الأم، تبدو وكأن لها الأرجحية والغلبة لدى المهاجر.. حتى أنها تعميه عن رؤية إشارات التشاؤم ونذر الخطر، رغم كونها منظورة ويقينية ومعاينة بالشواهد والمثلات، وتبقي على تعلقه بأبواب التفاؤل والوعود المشرقة،رغم قيامها على المأمول والمحتمل المخبوئين بظهر الغيب. أين المنطق السوي السليم في خطوة قد تكون فارقة بين الحياة والموت،يتم الإقدام عليها بناء على معادلة عوراء من هذا القبيل ؟!.

لا شك أن شيوع أخبار كوارث قوارب الموت، وما يتصل بها من مشاهد مؤلمة حول مصائر بعض المهاجرين، كان من شأنها جدلاً أن تؤدي إلى تناقص أعداد المقبلين على الهجرة.. لكن ما يحدث عملياً وواقعياً، ويثير الحفيظة ويجعل الحليم حيراناً، هو العكس تماماً، حيث تقول أحدث تقارير وكالة الحدود وخفر السواحل الأوروبية «فرونتكس» بأن الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، شهدت زيادة في تدفق المهاجرين اللا شرعيين عبر «المتوسط»، في اتجاه دول الاتحاد الأوروبي قدرها 12 %، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي.

وفي تقديرنا أن كثيراً من سياسات وقرارات ومواقف الدول المقصودة بالهجرة، لا تقل بدورها إثارة للدهشة والبعد عن الاتساق المنطقي.فهذه الدول تشكو، مثلاً، من تفشي الضمور العددي والشيخوخة العمرية بين سكانها، إلى درك العجز عن الوفاء بحاجات بعض دواليب العمل المجدي اقتصادياً. ويرى كثير من فقهاء الاقتصاد ورجال المال والأعمال لديها، أن أحد أهم أدوات دحر هذه النقيصة في الآجال الحالية والمنظورة، وربما الطويلة أيضاً، هو استقبال العمالة المتخصصة وغير المتخصصة من عوالم الجنوب، ولاسيما من أفريقيا ذات الخصوبة والآفاق السكانية الرحبة.

رب قائل هنا بأن هذه الإجراءات تنال فقط من المهاجرين «غير الشرعيين».. لكن المنظمات الإنسانية الناشطة في هذا الإطار، وهي شاهد عيان ميداني، تدفع بأن هذا التبرير مبالغ فيه ولا يكفي لتقبل ما يتعرض له المهاجرون، المغرر بهم، من عنف وشقاء وافتقار لأبسط أنواع الحماية الإنسانية «داخل مخيمات قذرة أو على قارعات الطرق في غير دولة أوروبية».

لا يجاهر الأوروبيون بأن نهجهم إزاء اللاجئين والمهاجرين يقوم على الفرز والانتقاء، حتى أن صدورهم لا تتسع لغير من يناسب حاجات أسواق وقطاعات العمل في مجتمعاتهم.. وإلى أن يعي المهاجرون أبعاد هذا النهج وتوابعه وتداعياته، سيقع الكثيرون منهم فريسة لأوهام الخلاص من وضعهم المعيشي المزري.. تلك الأوهام التي ربما ساقتهم إلى الموت وهم ينظرون.

Email