هل التقدم مفهوم معرفي أم تصور أيديولوجي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس هناك من ينكر أن الحياة البشرية وقائع من السيرورة التاريخية، والسيرورة التاريخية ما هي إلا أحوال التغير التي تحدث في المجتمع والمعرفة، لكن أحوال التغير متعددة الصور، فإذا انتقل مجتمع من حال فقر إلى حال ثراء بفعل عوامل الصناعة والزراعة والتجارة وتراكم الثروة من ريع المواد لخام، فهذا تغير لأنه انتقال إلى السعادة وتلبية الحاجات والرفاه، ولكن إذا حصل العكس فهو حالة تغير إلى ما هو أدنى. ونحن في هذه الحال لا نعنى بالتغير سوى انتقال من حال إلى أخرى بمعزل عن حكمنا على الحال ما إذا كان جيداً.

فيما مفهوم التطور الذي قدمه داروين يشير إلى الانتقال من البسيط إلى المعقد ومن الأدنى إلى الأعلى، وأخذت العلوم الاجتماعية عن الداروينية مفهوم التطور لتقيس فيه الاختلاف في تطور المجتمعات.

وعليه صار الحديث يجري عن الشعوب البدائية والشعوب المتطورة. وصار معيار التطور هو الأدنى والأعلى في كل مجالات الحياة، فارتبطت بمفهوم التطور العام جملة من المفاهيم الخاصة كالسعادة والمتعة وتلبية الحاجات والنظام السياسي والمؤسساتي وهكذا.

فكل تطور بهذا المعنى تغير نحو الأرقى وليس كل تغير تطوراً.

وفي القرن التاسع عشر ظهر فلاسفة التقدم سبنسر وأوغوست كونت وكوندريسه وماركس، واستمر هذا المفهوم سائداً حتى الآن رغم احتجاج الانتروبولوجيا عليه والنظر إليه على أنه مفهوم أيديولوجي يجعل من الغرب معياراً للتقدم، وعليه فجميع الشعوب التي لا تمشي على خطى الغرب هي شعوب مختلفة أو متأخرة.

وصار مفهوم التقدم أحد أهم المفاهيم في الأيديولوجيا الشيوعية ـ الماركسية اللينينية.

ولقد سألت رئيس قسم الفلسفة المعاصرة مرة عام 1977 ما هو معيار التقدم؟ فأجاب إنه أسلوب الإنتاج الذي يحدد التشكيلة الاجتماعية.

بلغة مبسطة لقد مرت البشرية بأسلوب الإنتاج المشاعي ثم العبودي ثم الإقطاعي ثم الرأسمالي وأخيراً الاشتراكي. وهكذا فالعبودية متقدمة على المشاعية، والإقطاعية متقدمة على العبودية، والرأسمالية متقدمة على الإقطاعية، وأخيراً الاشتراكية ومن ثم الشيوعية متقدمة على الرأسمالية.

وهنا سألته هذا يعني بأن اليمن الجنوبي ـ وكان اشتراكياً آنذاك ـ متقدم على فرنسا وألمانيا الغربية وبريطانيا أجاب ضاحكاً: بمعيار التقدم هذا صحيح.

وهكذا صار مصطلح التقدم مصطلحاً أيديولوجياً لا علاقة له بالواقع، أي صار الحكم بالمتقدم حكماً قيمياً.

والأنكى من ذلك تحولت أيديولوجياً التقدم عربياً إلى أداة لتقسيم الدول إلى تقدمية ورجعية، بل وتقسيم البشر إلى تقدميين ورجعيين.

وتكمن خطورة مصطلح التقدم في أن كل صاحب أيديولوجيا أو مدافع عن نظام سياسي أو اقتصادي بإمكانه أن يجعل من واقعه معياراً للتقدم.

وليس هذا فحسب، فإذا ما جرى الحديث عن العقل والعقلانية فإنه سيجري خلط الحابل بالنابل حول الوعي فكل صاحب وعي، فرداً أو جماعة، سينظر إلى عقليته بوصفها معياراً للتقدم العقلي.

وإذا دخلنا عالم القيم، وأخضعناه لتقويم مصطلح التقدم فإننا سندخل حقل سجال لا يصل إلى نتيجة، سجال لا تحله إلا مفاهيم التغير والتحول والتطور، فالقيم تتغير بتغير البنى التي أنتجتها، وهذه عملية بطيئة.

فأيديولوجيا التقدم لا تسمح لنا بإصدار الأحكام الموضوعية على السيرورة التاريخية وتعقيداتها.

وحين يجري الحديث عن مسار المعرفة العلمية فإن المفاهيم الصالحة لفهمها هي الاستمرار والقطيعة، الاستمرار الذي يفسر مسار التجديد الدائم في الكشف العلمي، والقطيعة التي تفسر القطيعة المعرفية مع معرفة قديمة، كالقطيعة بين المصباح الزيتي والكهرباء.

وهكذا نجد بأن مصطلح التقدم قد تلوث بالوعي الأيديولوجي ولم يعد مفهوماً مفسّراً للسيرورة المعرفية والاجتماعية والقيمية، وبخاصة إذا راح هذا المصطلح يقرر التصنيف الذي يذم الاختلاف.

إن قولنا هذا لا يلغي التناقض بين الجهل والخرافة من جهة، والمعرفة العلمية والموضوعية من جهة ثانية، تأسيساً على فكرة تغير الأحوال وتطورها.

 

Email