تايلاند تحبس أنفاسها مع إعاقة العسكر للديمقراطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قلنا في مقال سابق إن الانتخابات التايلاندية الأخيرة في مايو المنصرم، والتي فاز فيها حزب «إلى الأمام» الليبرالي الصغير بقيادة رجل الأعمال الشاب «بيتا ليمجارونرات»، لا يعني أنه سيتسلم السلطة لتنفيذ الإصلاحات التي وعد بها. وقلنا أيضاً إن الجيش سوف يستخدم كل ما في وسعه لإعاقته لأنه يمثل خطراً عليه. كما توقعنا فشل ليمجارونرات في جمع الأصوات الكافية في البرلمان للفوز بالزعامة.

وقد صدقت توقعاتنا هذا الشهر حينما جرى التصويت الأول في البرلمان لاختيار رئيس الحكومة الجديد الذي سيخلف زعيم البلاد العسكري الجنرال«برايوت تشان أوتشا» الممسك بزمام السلطة منذ سنة 2014. إذ لم يتمكن ليمجارونرات من جمع الـ 375 صوتاً الكافية لتسميته زعيماً جديداً للبلاد، بل أول زعيم تقدمي في تاريخها.

ففي جلسة التصويت البرلمانية، بحضور أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، امتنع أعضاء مجلس الشيوخ المعينين من قبل الجيش (249 عضواً) وامتنع أعضاء مجلس النواب المتحالفين مع الجنرال «برايوت تشان أوشا» إما عن التصويت أو عن منح أصواتهم لـ «ليمجارونرات»، الأمر الذي لم ينل معه الأخير ما كان بحاجة إليه وهو 375 صوتاً على الأقل من أصل 749 صوتاً. وكانت نتيجة التصويت كما يلي: 324 صوتاً لصالحه مقابل 182 صوتاً ضده وامتناع 199 نائباً عن التصويت.

وللخروج من هذا المأزق، تقرر أن يجتمع البرلمان بمجلسيه مجدداً في 19 يوليو، وبدا واضحاً أن ليمجارونرات لن يستسلم وسيحاول طرح اسمه مجدداً في محاولة منه لإحراج العسكر وإظهارهم أمام الشعب كعقبة ضد الإرادة الشعبية التي منحته أكثرية الأصوات في انتخابات مايو (151 مقعداً من أصل 500). كما توقع المراقبون أن يقوم «سريتا تافيسين» قطب العقارات وزعيم حزب «بيوا تاي» الموالي لرئيس الحكومة الأسبق المتواجد في المنفى «تاكسين شيناواترا» بترشيح اسمه كزعيم قادم للبلاد بحكم حلوله في المرتبة الثانية في انتخابات مايو (141 مقعداً من أصل 500).

الحقيقة أن أعضاء المجلسين من المؤيدين للعسكر وجدوا أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر. وبعبارة أخرى كان عليهم المفاضلة بين شخصية تقدمية تمتلك برامج إصلاحية طموحة تتعلق بإعادة هيكلة النظام السياسي جذرياً، وشخصية متحالفة مع زعيم سابق لطالما تسبب في أزمات سياسية ومعروف عنه كراهيته للجيش والنظام الملكي معاً.

وكان المتوقع أن يشير الجنرال برايوت على أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب الموالين للجيش بالتصويت لصالح «سريتا تافيسين» وحجب أصواتهم مجدداً عن ليمجارونرات، لسبب بسيط هو أن الثاني عازم عند توليه السلطة على تقليص الامتيازات والصلاحيات الملكية، وهذا بطبيعة الحال لا يناسب الجنرال برايوت المرشح لتولي منصب «رئيس مجلس العرش» بعد خروجه من السلطة وتقاعده من الجيش، حيث لن يكون لمنصبه نفوذ أو تأثير إذا ما تمّ تقليص امتيازات الملك.

غير أن برايوت وزملاءه العسكر استبقوا الأمر بالشروع في عملية قضائية بدأت بعد جلسة التصويت الأولى مباشرة للتخلص من ليمجارونرات، حيث رفعوا إلى المحكمة الدستورية قضية ضده حول مساهمة مزعومة له في شركة إعلامية، وهو أمر محظور بموجب قانون الانتخابات. هذا علماً بأن الرجل يواجه قضية منفصلة أخرى مرفوعة ضده أمام المحكمة الدستورية تتهمه بمحاولة الإطاحة بالنظام الملكي من خلال دعوته إلى إلغاء قانون العيب في الذات الملكية (قانون يحمي الملك والملكة والوصي وولي العهد من النقد ويعاقب المتجاوز بالسجن لمدة 15 عاماً). والمعروف أن التهمة الأولى إذا ما أقرتها المحكمة ضده فإنها ستؤدي إلى سجنه ومنعه من ممارسة السياسة لمدة 10 سنوات، أما التهمة الثانية فكفيلة بحل حزبه وتجريد نواب الحزب الفائزين من مقاعدهم.

وهكذا، حينما انعقد مجلسا الشيوخ والنواب في جلسة مشتركة يوم 19 يوليو الجاري، وجد ليمجارونرات أمامه حكماً قضائياً من المحكمة الدستورية، الأمر الذي أجبره على مغادرة الجلسة، وهو يرفع قبضته لأنصاره قائلاً: «أود أن أقول وداعاً حتى نلتقي مرة أخرى». فيما كان معارضوه الموالون للعسكر منتشين ويطالبون برفع الجلسة.

خارج قاعة الاجتماع كانت الجماهير التايلاندية تحبس أنفاسها، خشية أن تنتهي العملية الديمقراطية إلى توترات واضطرابات سياسية تعصف باقتصاد وأحوال البلاد كما حدث مراراً. وبدا أكثرهم متشائماً بعد أن تلاشت آمالهم في التغيير من خلال العملية الديمقراطية السلمية، خصوصاً بعد تصريح ليمجارونرات لوسائل الإعلام بأنه سيتوقف عن العمل البرلماني كعضو منتخب إلى حين صدور حكم قضائي حول مستقبله السياسي، مضيفاً: «أعتقد أن تايلاند تغيرت ولن تكون كما كانت قبل 14 مايو» في إشارة إلى تاريخ فوزه في الانتخابات.

وفي اعتقادنا أن الجيش وجنرالاته الأقوياء سيواصلون عرقلتهم لعودة الديمقراطية والحكم المدني إلى تايلاند كما فعلوا مراراً عبر الانقلابات العسكرية أو عبر وسائل أخرى منذ أن أخذت تايلاند بالنظام الملكي الدستوري لأول مرة سنة 1932 في عهد الملك راما السابع (1893 ــ 1941).

 

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

Email