ماذا يجري خلف الجدار الحديدي في شمال كوريا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تظل كوريا الشمالية على الدوام مادة دسمة للتكهنات والافتراضات، بسبب انغلاقها على نفسها، الذي هو سمة من سمات نظامها، ناهيك عن عزلتها جراء العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برامجها النووية والباليستية المهددة لجاراتها.

ولا حاجة لنا للتذكير كيف أن وسائل الإعلام الأجنبية تنافست، خلال فترة انتشار جائحة «كورونا» في العالم، لمعرفة مدى تعرضها للوباء والآثار التي تركتها على أحوال سكانها المعيشية والصحية. ولعل ما أغرى الإعلام الغربي والآسيوي أكثر، هو الشعارات التي أطلقتها بيونغ يانغ بفخر آنذاك، من أن كوريا الشمالية هي البلد الوحيد في العالم العصي على فيروس الوباء بسبب سياسات غلق الأبواب بإحكام أمام كل من يطرقها.

والحقيقة، لئن كانت أخبار الداخل الكوري الشمالي غير متاحة في الأحوال العادية، فإنها في زمن انتشار الوباء تحولت إلى مادة نادرة جداً، بسبب قيام السلطات بإغلاق الحدود بإحكام، حتى مع جارتها وحليفتها الوحيدة، الصين، التي ظلت دائماً منفذها الوحيد لاستيراد بعض السلع والبضائع، ومنفذ مواطنيها اليتيم للهرب والتهريب.

اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات على انقشاع أخطر وباء في العصر الحديث، ومع عودة الحياة إلى طبيعتها في مختلف دول العالم، واستعادة الناس حرياتهم في التنقل والسفر والتبضع والترفيه، تظل هذه البلاد هي الاستثناء الوحيد.

والجدير بالذكر هنا، أن زعيم البلاد الأوحد «كيم جونغ أون»، قرر في يناير 2020، عزل كوريا الشمالية بشكل مطلق عن العالم الخارجي، وبصورة أكثر تشدداً من أي وقت مضى في تاريخها، كرد على جائحة «كورونا»، وهو قرار لا يزال سارياً إلى اليوم، باستثناء بعض التجارة مع الصين. وقتها صرح «كيم جونغ أون» محذراً من احتمال أن تشهد البلاد «مسيرة شاقة» ثانية، ومطالباً مواطنيه بضرورة الاستعداد لذلك، في إشارة إلى المجاعة التي قتلت ما لا يقل عن 600 ألف شخص في التسعينيات، وهي حقبة سوداء، تركت ظلالاً قاتمة على حياة السكان، باستثناء أولئك الذين كانوا يعيشون في مناطق الحدود الشمالية الملاصقة للصين، ممن لجأوا إلى تهريب المواد الغذائية والتموينية والأدوية والضروريات من الصين، وتداولها بطرق غير مشروعة، من خلال السوق السوداء.

ومما يذكر أيضاً، في السياق نفسه، أنه بحلول يونيو 2021، تسربت أنباء من الداخل الكوري الشمالي، تفيد بوجود نقص حاد في الغذاء والمواد التموينية، كنتيجة لغلق الحدود مع الصين، ولكن بدلاً من أن تخفف السلطات إجراءاتها جزئياً لإنقاذ مواطنيها من الهلاك، راح الزعيم يحث شعبه على الصمود والبقاء أقوياء، لمواجهة تبعات الجائحة، علماً بأن التبادل التجاري بين بيونغ يانغ وبكين لم يستأنف حتى اليوم، بالشكل الذي كان عليه سابقاً. ولعل هذا ما دعا الأمم المتحدة إلى نشر تقرير في مارس 2023، طالبت فيه سلطات كوريا الشمالية بإنهاء ما وصفته بـ «العزلة الذاتية التي لا مثيل لها»، رأفة بمواطنيها.

حيث قالت البروفسورة البيروفية «إليزابيث سالمون»، وهي مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان في «جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية»: إنها تشعر بقلق بالغ، إزاء تأثير ثلاث سنوات من إغلاق الحدود على الشعب الكوري الشمالي، لا سيما «النساء العاملات في الأسواق غير الرسمية، والأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع، وكبار السن والمشردين والأطفال». وعلى الرغم من أن ما جاء في التقرير الأممي متوقع وغير مستبعد، إلا أن البعض من غلاة اليساريين وأيتام الشيوعية، ممن يزعجهم سماع مثل هذه التقارير التي تدين نظام بيونغ يانغ «الصامد أمام الغرب وقوى الشر الإمبريالية»، بحسب وصفهم، لا يصدقون، ويكابرون، ويطالبون بدليل مادي. والحقيقة أن الأدلة على أوضاع كوريا الشمالية، لم تكن يوماً متوفرة، وهي اليوم أكثر ندرة، كما قلنا. فقد كان مصدر أخبار هذه البلاد من الداخل، هو الدبلوماسيون وعمال الإغاثة الأجانب والمنشقون الهاربون إلى الشطر الجنوبي، لكن مع إحكام إغلاق الحدود منذ عام 2020، باتت حتى هذه المصادر معدومة، خصوصاً مع انخفاض حالات الانشقاق والهرب خوفاً من الإعدام الفوري بالرصاص من قبل حرس الحدود. وهكذا صار الاعتماد فقط على ما تنقله مصادر المخابرات الكورية الجنوبية، علاوة على ما ينشره أقارب الكوريين الشماليين الموجودين في الشطر الجنوبي.

ومثال ذلك، ما أعلنه جهاز المخابرات الوطني في سيئول في مايو 2023، من أن عشرة أشخاص من مواطني الشمال غامروا بالهرب عن طريق البحر، ونجحوا في الوصول إلى الشطر الجنوبي، وأنهم أفادوا في التحقيقات أن نظام بيونغ يانغ يفرض ضوابط أكثر صرامة من أي وقت مضى، وأن المواطنين العاديين يعانون المجاعة، وبالكاد يحصلون عن جزء بسيط من احتياجاتهم الأساسية، فيما يعيش أفراد العائلة الحاكمة والمقربون منها في بحبوحة.

Email