روح روما التي غابت عن عاصمة النور

ت + ت - الحجم الطبيعي

الذين خرجوا يحتجون بكل هذا العنف في فرنسا على مقتل الشاب نائل المرزوقي، كانوا في غنى عن ذلك كله لأسباب كثيرة.

فمنذ اللحظة الأولى كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أبدى غضبه لمقتل نائل، وقال في الإعلام صراحةً إن ما جرى غير مقبول، وكان هذا يكفي جداً في سياقه وحدوده، لأن معناه كان أن رجال الشرطة الثلاثة الذين تورطوا في القضية سوف يجدون حسابهم أمام العدالة.

ولكن الذين غضبوا لمقتل الشاب خرجوا يحرقون، وينهبون، ويحطمون، ولم يكن هذا أبداً ما يخدم قضية نائل الذي يمتد إلى أصول جزائرية.

صحيح أن رجال الشرطة الثلاثة تصرفوا معه بعنف غير مبرر وربما بحماقة، وصحيح أن اعتداءهم عليه وعلى حياته كان في غاية العنف، ولكن هذا كله لا يبرر إحراق الممتلكات العامة ولا الخاصة، ولا يبرر أن تبدو فرنسا على مدى أيام وكأنها تحترق عن آخرها.

وقد خرجت جدة نائل نفسها تدعو إلى الهدوء، وتدعو في الوقت نفسه إلى محاسبة الشرطي الذي أصاب حفيدها بالرصاص في قلبه، ومعه الشرطيين اللذين ضرباه على رأسه بقوة قبل مقتله.. كانت الجدة أعقل من كل الذين مارسوا العنف بسبب مقتل نائل، وكانت كلماتها واصلة إلى قلب كل الذين طالعوها، خصوصاً وهي تتحدث عن إنه كان ولد ابنتها الوحيد، وأن ذهابه قد أضاع أمه، ففقدت هي الإبنة والحفيد معاً.

وربما نكون قد لاحظنا أن حركة تبرعات قد انطلقت لصالح الشرطي القاتل، وأنها جمعت ما يزيد على المليون يورو في مرحلة ما بعد ارتكاب الجريمة بأيام قليلة، ومن الوارد أن يتضاعف المبلغ ويصل إلى أضعاف هذا الرقم، وأن تكون حملة التبرعات قد انطلقت، ليس عن تأييد للشرطي فيما فعل، ولا عن إقرار بجريمته أو رضا عنها، ولكن عن تعاطف معه في مواجهة العنف الزائد عن الحد من جانب الغاضبين، أو عن رفض لأن يكون هذا هو رد الفعل على مقتل الشاب في إشارة مرور.

أخشى أن يكون الذين غضبوا إلى هذا الحد المدمر قد خسروا قضيتهم أمام الرأي العام في العالم، وأن يكونوا من حيث لا يعلمون قد خلقوا رأياً عاماً مناهضاً لكل مهاجر إلى أوروبا، وخصوصاً إذا كان هذا المهاجر عربياً أو مسلماً، ولا فرق بعد ذلك بين أن يكون قد هاجر بالطريقة الشرعية القانونية، أو يكون قد تسلل إلى هناك عبر شواطىء البحر الأبيض المتوسط.

كانت أم نائل أولى بأن تنطلق حملة تبرعات من أجلها، وكانت جدته أجدى بجمع الأموال من أجل التخفيف من حزنها على حفيدها، وكانت الإثنتان في حاجة إلى حملة من التضامن معهما فيما أصابهما، ولو كان هذا قد حدث لكان الشرطي القاتل قد نال جزاءه العادل في هدوء، ولكان الشرطيان اللذان ضربا نائل قد حصلا على العقاب المناسب، وما كانت الدنيا سوف تنقلب على رؤوس الجاليات العربية في فرنسا، وفي غير فرنسا من الدول الأوربية، كما هو حاصل منذ اللحظة التي انطلقت فيها أعمال العنف.

والحصيلة على المدى البعيد أن أوروبا عموماً قد تتشدّد أكثر تجاه كل فرد من الجاليات العربية والإسلامية المهاجرة، وسوف لا يكون المهاجرون العرب والمسلمون موضع ترحيب أو قبول، وسوف تتطلع إليهم الحكومات في القارة العجوز على أنهم متهمون إلى أن يثبت العكس.

قديماً قالوا ما معناه إنك إذا كنت في روما، فإن عليك أن تتصرف بمثل ما يتصرف به أهل روما، ورغم أن هذه العبارة قيلت في سياق مختلف، إلا أن روحها يمكن أن تكون مفيدة في سياقنا نحن هنا، لأن الروح فيها لا النص تدعو الذين يعيشون في فرنسا وفي أوروبا، إلى أن يكونوا متحضرين في السلوك العام، وأن يحترموا قانون البلد الذي يعيشون فيه، وألا يكونوا نشازاً في الصورة العامة هناك.

 

* كاتب صحافي مصري

Email