يريدون لليابان أن تكون مجتمعاً متفسخاً بلا أخلاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

مما لا جدال فيه أن أحد أسباب نهوض اليابان ونجاحها في شق طريقها نحو المستقبل بتميز، وتصدرها للدول المتقدمة صناعياً وعلمياً واجتماعياً، من بعد هزيمتها المرة في الحرب العالمية الثانية، هو تمسك الفرد والمجتمع الياباني بمنظومة نموذجية من القيم والآداب والأخلاق والالتزام تشكل في مجموعها عصب الثروة الحقيقية للبلاد وسر نهضتها وقوتها.

وبعبارة أدق صاغ اليابانيون معادلة تقوم على أن الأخلاق، وما يرتبط بها من الشهامة والشجاعة والشرف ونكران الذات والإيثار والحفاظ على الهوية الوطنية والتقاليد المتوارثة، شرط من شروط النجاح في الحداثة والحضارة والتقدم والإبداع، وأنه لا تقدم ولا نهضة دون مبادئ وقيم أخلاقية.

ومن هنا كانت اليابان إحدى أولى دول العالم التي فرضت تدريس الأخلاق في مدارسها كمادة إلزامية، متضمنة تفاصيل كثيرة تتدرج من الأمانة والصدق والعفاف والتعاون إلى طريقة المشي ومستوى الصوت ودرجة الانحناء عند التحية واختيار مفردات التخاطب السليمة، ومراعاة الذوق العام في اللبس والأكل والتصرف وخلافه.

لكن ما الذي يدعونا اليوم لفتح هذا الملف الذي كتب فيه الكثير وأشبع بحثاً؟

يتعلق الأمر باجتماع قمة مجموعة السبع المعروفة بـG7، والتي استضافتها مدينة هيروشيما اليابانية في الفترة من 19 إلى 21 مايو. ففي قمة هذا العام، كان التركيز على مواجهة ما يسمى بـ«الإكراه الاقتصادي».

وهذا العنوان، لئن كان خاصاً بموضوع العدالة والتوازن في الاتفاقيات والعقود الاقتصادية ورفض ضغط القوي على الضعيف وتهديده بقبول شرط ما، إلا أن الخشية تكمن في احتمال التوسع في مفهوم الإكراه ليشتمل على الإكراه المعنوي والتمييز، وبما يحقق مآرب غربية متمثلة في إجبار العضو غير الغربي الوحيد في المجموعة (اليابان) على الانسلاخ عن هويته الثقافية وتقاليده، والاقتداء بشريكاته في مجموعة السبع لجهة سن وتفعيل قوانين خاصة ملزمة تصب في صالح الشواذ.

والمعروف أن الحكومة اليابانية تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية لضغوط متزايدة من قبل نظيراتها الغربيات بهذا الخصوص، فأقدمت على صياغة سياسات محلية غير ملزمة في مجال الحماية القانونية للمثليين، لكن المجتمع الياباني لم يتقبل الأمر ولم يرحب به، بدليل أن الوضع على المستوى الوطني العام لم يتغير. ولهذا فإن الأعضاء الغربيين في مجموعة السبع يتهمون اليابان بالتقاعس والتخلف عنهم.

ومن أغرب ما قرأت أخيراً مقال كتبه «لي بدجيت»، وهو أستاذ لمادة الاقتصاد بجامعة ما ساشوسيتس أمهيرست الأمريكية، وزعم فيه أنه من الضروري لصحة أي اقتصاد، ولا سيما الاقتصاد الياباني، أن يستوعب المثليين ويوفر لهم حقوقهم الكاملة في الحصول على تعليم جيد ومهارات مناسبة ووظائف محترمة ورواتب جيدة، لأن خلاف ذلك يعني إصابة الاقتصاد والمجتمع بعيوب.

ليس هذا فقط، بل راح يضيف قائلاً إن إقصاء وتهميش هؤلاء «يعني انخفاضاً في رأس المال البشري، وهذا بدوره يؤدي إلى انخفاض الإنتاج والقدرة الاقتصادية»، ومشيراً في السياق نفسه إلى أن هذا هو «أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل البلدان الأكثر شمولاً لأفراد مجتمع المثليين لديها نسبة أعلى من الناتج المحلي الإجمالي للفرد».

ويدعي كاتب المقال أن الدراسات في اليابان (دون أن يذكر أي مصدر) أثبتت أن المثليين هناك أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من غيرهم وأكثر تفكيراً في الانتحار بستة أضعاف من الآخرين، ويدعي أيضاً أن الأبحاث (ومرة أخرى دون الإشارة إلى أي مصدر) دلت على أن علاج هذه الحالات الصحية وحدها يكلف الاقتصاد الياباني سنوياً مبلغاً يتراوح ما بين 10 ملايين ــ 3 مليارات دولار أمريكي، وأن ما يكلف الاقتصاد الياباني سنوياً جراء الاستبعاد من مكان العمل والتعليم غير معروف لفشل الباحثين في تحديده بدقة.

وبعد أن أنهى الكاتب مزاعمه ومرافعته المحمومة عن حقوق من سماهم بـ«المضطهدين في المجتمع الياباني»، راح ينتقد الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في طوكيو لتقصيره قائلاً، إن الحزب، على الرغم من اقتراحه قانون «تعزيز الفهم»، إلا أنه فشل في تمريره كقانون ملزم كي يكون «أداة فعالة لوقف التمييز»، ومشيراً إلى أن القانون الياباني يجبر المتحولين جنسياً، ممن يرغبون في إثبات ذلك في وثائقهم، على الاستئناف أمام محكمة الأسرة، حيث يجب عليهم تلبية معايير صارمة وغير معقولة تمنع أناس كثيرين من عيش حياتهم كما يرغبون وتحد من مشاركتهم في الاقتصاد.

أما الحقيقة التي أغفلها لغرض ما، فهي عدم وجود أي شكل من أشكال العداء تجاه المثلية الجنسية في ثقافة اليابان ودياناتها الكبرى، إلا أن المجتمع بصفة عامة لا يتقبل الفكرة. ولأن القوانين عادة ما تعكس ظروف المجتمعات البشرية واحتياجاتها، فإن القوانين اليابانية لا تعترف مثلاً بزواج المثليين، ولا توفر الحماية القانونية لمنازل إقامتهم، لكنهم لا يتعرضون للاضطهاد كما زعم الكاتب.

 

Email