أوروبا والاستقلال الاستراتيجي.. منظور واقعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند رصد تفاعلات القوى الطليعية على قمة النظام الدولي، بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، نجد أن زيارة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لبكين، في أبريل الماضي، تندرج في مألوف التواصل الأوروبي الصيني. فأثناء الحرب توافد غير مسؤول أوروبي كبير إلى هناك.

غير أن خطوة ماكرون حظيت بقدر استثنائي من المتابعة والتعقيبات والتكهنات، ولا سيما لدى أوساط المهتمين بمساري ومصيري العلاقات الأوروبية الأمريكية بعامة والفرنسية الأمريكية بخاصة. وفي هذا الإطار ثار عصف فكري وسياسي، بين من طرحوا تحليلات انفعالية مشوبة بالغضب والامتعاض، بزعم الغيرة الفائضة على وحدة عالم الغرب، وضرورة تصدير مؤشرات الولاء للزعامة الأمريكية الوجلة من تجليات التقارب الصيني الروسي الصيني في المشهد الدولي.. وبين من غلفوا مواقفهم بشيء من الرزانة والهدوء ومحاولة الإفلات من الضغوط، المفروضة بقوة تاريخ السياسة الفرنسية مع طموح الاستقلال عن واشنطن، وتداعيات لحظة الحرب وتوابعها.

بنظرة بانورامية، نلاحظ أن الممتعضين نسبوا الزيارة إلى خبث في صدر ماكرون، ساقه للهروب من دائرة الاحتجاجات الداخلية ضد تعديل قانون التقاعد، ولفت الأنظار عن شعبيته المتدنية.. لكن المحصلة كانت أنه ساهم في استرضاء خصم دولي كبير، وأعطاه علماً بالانقسامات الموجودة في الكتلة الغربية، وأوحى للكافة بأنه في حال صعود التوتر الأمريكي الصيني، حول قضية تايوان مثلاً، فسوف تختلف مصالح الأوروبيين ولن يكونوا تابعين للمعالجة الأمريكية. ونعثر بالخصوص على تقديرات بالغت في استنكار تصرف الزعيم الفرنسي، حين اعتبرت أنه «فضح تصدعات عالم الغرب».

في مقابل هذه الفزعة، المجبولة فيما يبدو بمقاربات وهواجس زمن الحرب الباردة، هناك من جنح إلى التروي والتعمق أكثر في تناول زيارة نوعية فارقة، لا يمكن تعليلها بالأسباب الساذجة التي يعرضها الغاضبون.. فقد كان أمام ماكرون، وسائل أخرى لترميم شعبيته، غير السفر من فوق رؤوس المتظاهرين في باريس إلى الصين ومغازلتها، على حساب العلاقات والخيارات الكبرى للسياستين الفرنسية والأوروبية، وغير الحديث من قلب بكين عن «الاستقلال الاستراتيجي عن واشنطن وعدم التبعية لها».

بالنسبة لهؤلاء الأخيرين، تنطوي سياسة ماكرون الصينية على حكمة وبعد نظر.. ففي اعتقادهم أن زيارته جاءت بعد أقل من شهر على لقاء الرئيس الصيني مع بوتين في موسكو، فهل كان من الأفضل ترك المجال الدولي متاحاً لإقامة تحالف صيني روسي جديد؟ هم يرون عموماً أن هذه الزيارة أبرقت رسالة مفادها أن فرنسا، وبالتالي أوروبا، تريدان الحفاظ على التجارة والتواصل مع الصين، وأنه لا يصح ترك روسيا تنفرد بشرح وجهات نظرها لبكين باستمرار؟.. هذا علاوة على أن الرئيس الفرنسي لم يفاجئ أحداً بموقفه، كونه لم يتخل يوماً عن الدعوة لاستقلال أوروبا.

في كل حال، نتصور أن الأكثر جدوى بالنسبة لمدرسة الساخطين من نهج ماكرون الاستقلالي، وأغلبهم من ذوي الميول الأنجلوساكسونية، هو فحص فرص نجاح هذا النهج وتطبيقه على أرض الواقع من الأصل. ونحسب أن معمعة الحرب الأوكرانية، قدمت امتحاناً عملياً لهكذا محاولة، وبالذات فيما يتعلق بالشق العسكري، وبيان مدى قدرة الأوروبيين على الفكاك من الاعتمادية الدفاعية على الشريك الأمريكي التي تتشح بعباءة حلف «الناتو».

والحق أن بعض الأدبيات التي خاضت هذا الامتحان بالفعل، انتهت إلى نتيجة لا ترضي تطلعات ماكرون. ومؤدى ذلك أن الحرب كانت حدثاً مواتياً ومحفزاً لتعزيز نظام الدفاع الأوروبي، والانعتاق بنسبة كبيرة من رقبة الهيمنة الأمريكية. لكن ما جرى هو ثبوت صعوبة، ولعلها استحالة، تحقيق هذا الهدف، لا حالياً ولا في أجل قريب.

من التفصيلات الرصينة الكثيرة التي تحويها هذه الأدبيات، نفهم أن الحرب ساهمت في تعميق مشكلات دفاع الأوروبيين الهيكلية.. فقد استنفذت مخزونات أسلحتهم، وأكدت عجز صناعاتهم العسكرية وضعف التنسيق بين مؤسساتهم المعنية، حتى إن كل بلد يعمل منفرداً. كما ثبت أنهم لم يستثمروا مطولاً في قواتهم المسلحة، لغير الجهوزية في أداء مهام إنسانية، ولا قبل لهم ولا لواقع التسلح في جيوشهم بالحروب التقليدية ولا بالقدرة على ردع خصم قوي كروسيا.

الشاهد هنا بحكم الحقائق والأرقام والسياسات، أن الأوروبيين أوغلوا في التشبيكات ذات الطبيعة الاقتصادية، وتخلفوا كثيراً عن تقوية خاصرتهم الدفاعية الجماعية الرخوة، وأنه لا طاقة لهم بالانفصام أو الفطام عن الريادة الأمريكية. وربما كان، وما زال، يتعين على ماكرون ومحازبيه فرنسياً وأوروبياً، الاطلاع على هذه الوضعية البائسة وأخذها في الحسبان، قبل الكلام الكبير عن الاستقلال.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email