شخصيات تحت المجهر

محمد جمعة خان.. غارس الفن العدني في الخليج

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقولون إن الموسيقى لغة عالمية لا جنسية لها، وإنها عابرة للشعوب والأمم ولا تعترف بالحدود والثقافات فالأذن قد تطرب لأي نغمة جميلة وإنْ لم تسمعها من قبل أو كان يصاحبها لغة غير مفهومة. ومن هنا فإن اقتباس موسيقار موسيقى أمة أخرى والإضافة إليها وطرحها في قالب جديد هو من ضمن تلاقح الثقافات.

 والموسيقار محمد جمعة خان، الذي سنتناول سيرته هنا، هو أحد عمالقة الغناء في شبه الجزيرة العربية الذين شرقوا وغربوا، واقتبسوا وأضافوا ومزجوا، فنجح في تقديم ألوان من الغناء الجميل، وتكوين مدرسته اللحنية الخاصة، وإخراج الأغنية من إطارها القديم إلى إطار متميز مشرق بل نجح في غرس الغناء العدني/ الحضرمي خارج وطنه من سواحل شرقي أفريقيا إلى ضفاف الخليج العربي.

إن تجربة خان ثرية المعالم وبالغة التأثير تستحق الغوص في أغوارها والاطلاع على تفصيلاتها وتتبع ملامحها الفريدة، وخصوصاً أنه برع في إحياء وإبراز التراث القديم وتقديمه بصوته العذب بنهج مختلف ومتطور لم يجارِه فيه أحد من مجايليه.

كتب عنه الباحث عصام خليدي في صحيفة «عدن تايم» قائلاً: «حين تسمعه تتحول الجمل الموسيقية إلى سيناريوهات ولقطات بصرية منظورة تبين خصوصية مدينة المكلا وحضرموت وملامحها ومزاجها وبحارها وشواطئها وجبالها، وأزقتها وأبنيتها المعمارية الهندسية الشاهقة والباذخة (المتفردة) بصورة عامة والتي رمت بظلالها الفنية والثقافية على نكهتها ومذاقها وهويتها المستقلة في خريطة الغناء اليمني بشكل عام».

ولد «محمد جمعة عبدالرزاق خان» في سنة 1903 في قرية «قرن ماجد» بوادي دوعن بمحافظة حضرموت لأب هندي من البنجاب وأم حضرمية تدعى «فاطمة يسلم بهيان» إذ كان والده من المحاربين الذين استقدمهم السلطان عوض بن عمر القعيطي سلطان الدولة القعيطية الحضرمية كي ينضموا إلى جيشه لتثبيت أركان حكمه.

ونشأ وسط بيئة شغوفة بالطرب والغناء، فكان والده مهتماً بالغناء ويملك مكتبة من الأسطوانات الهندية والعربية، وأخوه الأكبر أحمد كان صاحب صوت رخيم وملحناً وعازفاً على آلة «هارمونيكا»، وأخوه الآخر عبدالله كان بارعاً في الضرب على الرق، بينما أخوه الثالث عبدالقادر كان مجيداً للعزف على مختلف الآلات النحاسية، وكان أخوه الأصغر سعيد عازفاً ماهراً على «كلارنيت». وهكذا كان لنشأته الأولى وسط تلك البيئة الموسيقية دور في تعلقه بالغناء منذ صغره، بدليل أنه حينما التحق بالتعليم الابتدائي، من بعد دراسته في كتاتيب المكلا، كان بارعاً ومتفوقاً على أقرانه في حفظ وتلحين الأناشيد المدرسية.

في سنة 1918 التحق بالفرقة الموسيقية للسطان القعيطي عازفاً بمرتب ثلاثة ريالات شهرياً، فتعلم العزف على العديد من الآلات الموسيقية تحت إشراف قائد الفرقة الضابط الهندي عبداللطيف، وتعرف إلى معزوفات الفرقة من الأغاني الغربية والهندية، وتخصص في العزف على آلة «السمسية» الوترية، قبل أن ينتقل للعزف على آلة «كلارنيت». في أثناء ذلك، عشق خان العزف على العود وأجاده وتفوق فيه على يد مواطنه المطرب «سعيد العبد»، فصار العود مذاك رفيقه ونديمه، كما تعرف إلى الألحان العربية الحضرمية عن طريق المطرب الشعبي «سعدالله فرج».

في العقد الثاني من عمره، حدث أن توفي قائد الفرقة الموسيقية، فاختير بديلاً عنه، وقام بإدخال الموسيقى العربية إلى الفرقة السلطانية أول مرة، وظل كذلك إلى أن أحيل في سنة 1947 إلى التقاعد بطلب منه، بعد 29 سنة من خدمة الفرقة السلطانية، كي يتفرغ لفنه ويحترف الغناء مع فرقة موسيقية خاصة به أسسها آنذاك، وأدخل فيها آلات موسيقية لم تكن ذات حضور آنذاك في حضرموت مثل الكمان والرق والإيقاع. ومع تحرره من قيود الوظيفة وامتلاكه فرقة خاصة به ازدادت اهتماماته بألوان الغناء الحضرمي، ولا سيما الموشحة الحضرمية، لما فيها من سحر وجمال فأخذ يقتبس من تلك الألوان الغنائية ويصبها في قوالب جديدة راقصة بتوقيعه، جعلت الناس تنكب عليها وتتذوقها بديلاً عن الألحان العربية والهندية الوافدة.

من جهة أخرى، شدّت الأناشيد الدينية انتباهه بعدما لاحظ وجود تنافس شديد بين فرقها في المكلا والشحر وغيرهما، فقرر أن يخوض مجالها كي يستفيد منها مادياً وفنياً ولهذا راح يتتبع أخبارها وألحانها ومجالسها، بل اتصل بأحد كبار منشدي حضرموت الدينيين وهو الشيخ عبدالله صالح باعشن وأخذ منه العديد من الأناشيد الدينية التي حورها وطورها وأدخل فيها الآلات الموسيقية كالعود.

وهكذا تمكن خان من تثبيت قدميه على امتداد التراب الحضرمي مطرباً لا منافس له في الصوت والتلحين والأداء، بل امتدت شهرته إلى حضارم المهجر الذين راحوا يدعونه للسفر إليهم في مهاجرهم للغناء وإحياء حفلاتهم الخاصة، ولا سيما أنه كان مجيداً مختلف أنواع الغناء (العاطفي والسياسي والاجتماعي والديني).

وكان خان كريماً في تلبية تلك الدعوات، فقد سافر أولاً إلى كينيا يرافقه صديقه ونديمه عازف الكمان البارع سعيد عبدالله الحبشي، ثم جاءت رحلته الثانية وكانت إلى الحبشة والصومال، فرحلة ثالثة إلى جيبوتي، فرحلة رابعة إلى الكويت التي تردد عليها أكثر من مرة وكان آخرها في سنة 1960، حينما مكث فيها شهراً كاملاً أحيا فيه العديد من حفلات الزواج والجلسات الشعبية، وسجل أثناءها أيضاً عدداً من الأسطوانات لمصلحة شركة «بوزيد فون» كما قام برحلة إلى السعودية التي أقام بها مدة سنتين تنقل فيهما بين مدن الحجاز ونجد، وأنتج أثناءهما بعض الأعمال التي جاءت متأثرة بالألوان الحجازية والنجدية. وفي كل هذه الأقطار أحيا حفلات غنائية عامة وخاصة زادته شهرة ونجومية وتألقاً وجمهوراً.

وطبقاً لما أورده الفنان اليمني المعروف محمد مرشد ناجي في كتابه «الغناء اليمني القديم ومشاهيره» الصادر في سنة 1984، فإن مدير إذاعة عدن في تلك الفترة «حسين أحمد الصافي» استغل ما حققه خان من شهرة فاستدعاه إلى عدن وتعاقد معه على تسجيل 30 أسطوانة من أغانيه.

والحقيقة أن انتقاله من حضرموت إلى عدن شكل منعطفاً مهماً في حياته، بسبب مكانة عدن آنذاك ميناءً مفتوحاً وواحداً من أهم المراكز الحضارية والثقافية المتمدنة في جنوبي شبه الجزيرة العربية، حيث نشط هناك فنياً كما لم ينشط من قبل، وكثر المعجبون والمتأثرون به وبفنه، وانهالت عليه العروض تباعاً لتسجيل أغانيه في أسطوانات لدى تسجيلات «مستر حمود» (40 أسطوانة)، ولدى «عزعزي فون» (60 أسطوانة)، ولدى «عيدروس الحامد» (12 أسطوانة).

ومن أهم الأعمال الغنائية التي سجلها خان ولقيت صدى طيباً لدى الجمهور وذاع صيتها في أقطار الخليج والجزيرة العربية وبين الحضارم في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا: «نالت على يدها»، و«نادمته على الصفاء»، و«يا حبيب القلب صلني»، و«يا رسولي توجه بالسلامة»، و«رمش عينه بريد المحبة»، و«بالغواني قلبي مولع»، و«حي ليالي جميلة»، و«بسألك يا عاشور»، و«عذبتنا يا خفيف الروح»، و«أتت هند شاكية لأمها»، و«مهفهة بالسحر من لحظاتها.. إذا كلمت ميتاً يقوم من اللحد»، و«عاد قلبي معك»، و«عليك العمد يا رب لا خاب من قصد»، و«يا من تحل بذكره عقد النوائب والشدائد»، و«جاءت تجر ذيول التيه»، و«إسلمي يا موطني يا أرض عاد»، و«يا عظيم الرجاء تحت بابك»، و«صليني فإن فؤادي للهوى صادٍ»، و«حبيبي قد أذقت القلب تعذيباً وهجرا»، و«مايس القد عوّد بالتلاقي»، و«يا من على البعد أهواها وتهواني»، و«أنا وخلّي تراضينا»، و«ناجت عيوني عيونه»، و«يا نديم الصبوات أقبل الليل فهاتي»، و«حنانيك يا من سكنت الحنايا»، وهذه الأغنية الأخيرة اقتبس لحنها من أغنية هندية قديمة ظهرت في سنة 1951 في فيلم «مدهوش Madhosh».

 

والملاحظ هنا أن فناننا كان حريصاً على انتقاء كلمات أغانيه، فقد كان مؤمناً بأن الكلمات الرديئة المبتذلة لا يمكن أن تصنع فناً عظيماً، بل إنها تشوه صورة الفنان وتحط من كرامته وكبريائه، وهو لم يكن يتسامح إطلاقاً مع أي محاولة تسيء إلى اسمه أو فنه أو سمعته، بدليل أنه تزوج وتحمل مسؤولياته الأسرية في سن صغيرة كيلا يتعرض إلى القيل والقال والشائعات من تلك التي تطارد عادة أهل الفن والطرب.

وبالرغم من أن الرجل لم يكمل تعليمه النظامي، إلا أن ما ساعده على حسن اختيار كلمات أغانيه من قصائد لشعراء العرب القدامى والجدد، تجارب الحياة والقراءة والاحتكاك وملكاته الخاصة واستعداده الفطري للتعلم. وليس أدل على الشق الأخير من حقيقة أنه تعلم النوتة الموسيقية بنفسه، فكان أول من أجاد من فناني حضرموت واليمن النوتة وكتب بها الألحان على خلاف غالبية معاصريه الذين كان أكثرهم بالكاد يقرأون الأبجدية، ما جعلهم يغنون على السماع والمشافهة والتقليد.

حينما توفي خان بمدينة المكلا في 25 ديسمبر 1963 ودفن فيها بمقبرة يعقوب، من بعد عامين من مرض عضال ألزمه الفراش، كان قد تزوج أربع نساء، وأنجب ثلاثة أبناء من إحداهن فقط، ومن بينهم ابنته الإعلامية أفراح جمعة خان التي عينت في سنة 2014 مديرة لإذاعة المكلا، في تعيين غير مسبوق لسيدة حضرمية.

وفي ما يتعلق بمسألة غرسه بذور الأغنية الحضرمية في الخليج، وجدت في تقرير بهذا الخصوص لوكالة الأنباء الكويتية (12/12/2009) ما ذكره المهتم بتراث الفن العدني في الكويت الدكتور ضاري الرشيد أن «الخلفية الأسرية المختلطة أتاحت لخان أن يبتدع لوناً غنائياً جديداً يختلف عن الألوان الموسيقية اليمنية الدارجة آنذاك فاستلهم من تراث أبيه الهندي بعض الألحان والأوزان والضروب الإيقاعية ثم فرش عليها القصائد العربية الكلاسيكية والأشعار الحمينية اليمنية»، موضحاً أن تسمية ذلك اللون من الفنون «العدنيات» ليس دقيقاً لأن الرجل من حضرموت وعاش فيها ومارس فنه فيها، و«لذا فإن الأصح تسمية موسيقاه بالحضرمية، ولكن مريدي هذا اللون في الكويت نسبوه إلى عدن مجازاً، ربما لكون ميناء عدن المحطة الأشهر في خطوط سفر الكويتيين الأوائل».

وهذا صحيح، إذ شكلت عدن في ثلاثينيات القرن العشرين محطة ترانزيت للكويتيين في رحلاتهم البحرية إلى زنجبار وممباسا، فكانت بداية تعرفهم إلى الفن العدني، وخصوصاً أن خان كان يصعد مع فرقته متن سفنهم التجارية الراسية ليحيي لهم جلسات السمر مؤدياً أغاني الصوت الكويتي التي أجادها إضافة إلى أغانيه الحضرمية.

وكان من نتائج ذلك انتقال الفن الحضرمي إلى الكويت والخليج عبر أولئك التجار والبحارة، ومنهم إلى مغنين كويتيين مثل عبدالله فضالة الذي احتوت أسطواناته المسجلة في الأربعينيات على بعض الأغاني العدنية الرائجة، وتبعه في ذلك الفنان حمد خليفة في الخمسينيات. وبين الرشيد أن خان غرس بنفسه بذرة فنه المبتكر في الكويت حينما زارها في الستينيات، إذ تزامنت تلك الفترة مع قدوم عدد من الموسيقيين اليمنيين إلى الكويت إما للاستقرار والعمل فيها وإما لتسجيل الأغاني وإحياء الحفلات فأسهموا بدورهم في رواج الألوان الغنائية الحضرمية والعدنية واليمنية في الكويت والخليج.

ولكن من الواجب الإشارة هنا إلى أن انتشار تلك الألوان من الغناء في السعودية وتأثر بعض فنانيها بها كان سابقاً لانتشاره في الكويت وجاراتها، بسب ارتباط الحجاز بحضرموت اجتماعياً وثقافياً وفنياً منذ تاريخ أبكر، ناهيك عن وجود جالية كبيرة من الحضارم في الحجاز منذ قرون.

Email