الداخل قبل الخارج سبب الأزمة السودانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل المؤامرة الخارجية هي السبب في الأزمة التي يعيشها السودان الشقيق هذه الأيام؟ الإجابة الموضوعية هي لا، صحيح أن هناك دوراً للخارج في هذه الأزمة ومعظم أزمات المنطقة، لكن الأمانة تقتضي منا القول: إن الأسباب الداخلية المتشابكة هي العامل الأساس في معظم مشاكلنا العربية وبعدها يأتي دور الخارج.

في الحالة السودانية الراهنة قد نلمس صراعاً أمريكياً روسياً، أو أمريكيا صينياً على مناطق النفوذ والموانئ والقواعد العسكرية والثروات والموارد الطبيعية، وقد تكون هناك منافسات إقليمية، لكن في كل الأحوال فإن ذلك لم يكن هو السبب الجوهري في انفجار الأوضاع بالصورة، التي رأيناها في التاسعة من صباح السبت 15 من أبريل الماضي، حينما اشتبكت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في قتال عسكري دام، أدى إلى مصرع المئات، وإصابة الآلاف، وتعرض الملايين للحصار والتشرد وانقطاع المياه والكهرباء، وخروج العديد من المستشفيات في العاصمة الخرطوم من الخدمة.

القوى العالمية أو حتى الإقليمية تسعى دائماً لتعظيم مصالحها ونفوذها في كل مجال تستطيع أن تصل إليه، لكنها لا يمكنها تحقيق أي اختراق أو تدخل من دون وجود تربة وبيئة مهيئة لذلك من قبل الداخل، وبالتالي فإنه لا يمكن أن نلوم الخارج كثيراً، ونحمله المسؤولية الكاملة، بل المُلام الرئيسي هنا هو الداخل أولاً وحتى تاسعاً، وربما يأتي العامل الخارجي في المرتبة العاشرة!

لو دققنا قليلاً في أسباب الأزمة السودانية لاكتشفنا بسهولة شديدة أن جذورها الأساسية موجودة بالداخل.

أولاً: كان هناك حكم عمر البشير الذي استمر منذ 30 يونيو 1989 وحتى سقوطه في أبريل 2019، أي استمر ثلاثين عاماً كاملة، وفي التحليل الموضوعي فإن جذور الأزمة الراهنة بدأت بسبب سياسات نظام البشير، التي تسببت في أزمات اقتصادية طاحنة، وفي الانفصال الذي أدى لنشأة دولة جنوب السودان في 9 يوليو 2011.

وفى عام 2003 أسس هذا النظام قوات الجنجويد لمحاربة القبائل المتمردة، وهجمات تأتي من دول مجاورة، وفي 2013 قرر تغيير مسماها إلى قوات الدعم السريع، لتصبح تابعة مباشرة للأجهزة الأمنية. وحينما ثار الشعب السوداني على نظام عمر البشير فإن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع انحازتا ضد البشير، ما عجل بسقوطه.

نعرف أنه بعد ذلك حدثت خلافات عميقة بين المكون العسكري، الذي يضم القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من جهة، وبين المكون المدني الذي يضم أغلبية القوى المدنية أو قوى الحرية والتغيير «قحت»، أي تلك القوى التي أسهمت في إسقاط البشير، وبعد صدامات واحتجاجات وخلافات كثيرة بين الجانبين، فإن المكون العسكري قرر الانقلاب على التجربة الديمقراطية في 25 أكتوبر 2021، لكن ذلك لم يحل المشكلة، بل ربما زادها تعقيداً، ورأينا احتجاجات شعبية متزايدة تكاد تكون أسبوعية، سقط خلالها مئات القتلى والجرحى، وأدت إلى قيام بعض دول العالم الكبرى بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية ضد النظام السوداني، لأنه من وجهة نظرها، انقلب على النظام الديمقراطي، وهو ما فعله الاتحاد الأفريقي أيضاً.

نتيجة هذه الاحتجاجات المتتالية قبل المكون العسكري التفاوض مع القوى المدنية، وتوصل الطرفان إلى ما يعرف بالاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر الماضي، والذي نص على تسليم السلطة الانتقالية إلى سلطة مدنية كاملة دون مشاركة القوات النظامية التي سيكون لها تمثيل محدود، أما المستوى التنفيذي فيكون لرئيس وزراء مدني تختاره القوى المدنية الموقعة على الاتفاق، ونص كذلك على النأي بالجيش عن السياسة وعن ممارسة الأنشطة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش وفقاً للترتيبات، التي يتم الاتفاق عليها لاحقاً في مفوضية الدمج والتسريح، مما يقود إلى جيش وطني مهني وقومي واحد، وإصلاح جهازي الشرطة والمخابرات ووضعهما تحت رئاسة رئيس الوزراء، وكذلك إصلاح الأجهزة العدلية بما يحقق استقلاليتها ونزاهتها، وإطلاق عملية شاملة تحقق العدالة الانتقالية، وتنفيذ اتفاق جوبا، وإزالة تمكين نظام 30 يونيو 1989، وتفكيك مفاصله واسترداد الأموال والأصول المنهوبة، وإطلاق عملية شاملة لصناعة الدستور وتنظيم عملية انتخابية شاملة بنهاية الفترة الانتقالية، ومدتها 24 شهراً.

طبعاً الاتفاق أيده كثيرون، وعارضه كثيرون، لكن النقطة الجوهرية كانت كيف يتم دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهل تكون المدة عامين كما اقترح الجيش، أم عشرة أعوام، كما اقترحت قوات الدعم، وكذلك من الذي سيتولى قيادة الجيش في الفترة الانتقالية.

وهذه النقطة الجوهرية يراها كثير من المرافقين أنها أساسية، وكذلك لب الخلاف، والسبب المباشر في تفجر الصراع الحالي، وربما يكون السبب هو السياسات والتراكمات الخطأ طوال حكم البشير، وبالتالي فإن ما حدث كان أمراً طبيعياً ومتوقعاً.

الشرح السابق بأكمله هدفه الأساسي هو أن جوهر الخلاف والصراع داخلي بين مكونات المشهد السياسي والعسكري في السودان، وبالتالي فإن العامل الخارجي، ورغم أهميته لم يكن هو السبب الأساسي في الأزمة.

 

*رئيس تحرير صحيفة الشروق المصرية

Email