بابوا الغربية تسبب صداعاً لإندونيسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا نظرت إلى الخريطة السياسية للعالم، ووجهت بصرك صوب منطقة أوقيانوسيا وجنوب شرق آسيا، ستجد دولة أرخبيلية ذات مساحة معتبرة (نحو 800 ألف كلم مربع) تدعى «بابوا غينيا الجديدة».

هذه الدولة المستقلة، التي يبلغ عدد سكانها اليوم أكثر من 6.5 ملايين نسمة، وتحد إندونيسيا من جهة الشرق بحدود طويلة مستقيمة كما لو أنها رسمت بالقلم والمسطرة، وتفصلها عن أستراليا، التي احتلتها عام 1905 ثم منحتها الاستقلال الكامل سنة 1975، مياه بحر المرجان.

والمعروف أن القسم الغربي من هذه البلاد، والذي يعرف باسم «إيريان الغربية» كان محل نزاع بين إندونيسيا وهولندا طوال عقد الخمسينيات، حيث طالبت بها جاكرتا كونها جزءاً من أراضيها، وخاضت معارك دبلوماسية وحربية من أجل ضمها للسيادة الإندونيسية إلى أن أصدرت الأمم المتحدة قراراً مثيراً للجدل في مايو 1963 بتبعيتها لإندونيسيا من بعد استفتاء حول تقرير المصير.

ومذاك نشطت حركات مسلحة محلية تطالب بالانفصال والاستقلال، ربما بسبب التهميش والإهمال (تعد من بين أفقر أقاليم إندونيسيا الأربعة والثلاثين)، لكن لماذا نتحدث عن هذا اليوم؟ السبب هو أن جاكرتا لئن عانت طويلاً من هذه المشكلة، إلا أن قلقها الأمني تضاعف في الأشهر الأخيرة كونه نتيجة طبيعية لتزايد عمليات الانفصاليين ضد قواتها، هي التي اعتقدت أنها طوت صفحة الانفصال والتمرد بعد منحها الاستقلال لتيمور الشرقية سنة 2002 والحكم الذاتي لإقليم أتشيه السومطري سنة 2005.

يحدث هذا في الوقت التي تسيطر فيها المخاوف أيضاً على جارتها «بابوا غينيا الجديدة»، التي تخشى أن تمتد عمليات ما يسمى بـ«الجيش الوطني لتحرير بابوا الغربية» إليها، فتنشأ توغلات عسكرية وعمليات نزوح للاجئين إلى أراضيها قد تجر إلى صدام مع جاكرتا، خصوصاً بعدما انتشرت صور لمقاتلين انفصاليين يتدربون داخل حدودها، ويتدربون بمدافع رشاشة في الغابات والمناطق الحدودية الوعرة بين الدولتين.

والحقيقة أن المنطقة باتت مرشحة للانفجار وحدوث أزمة تتخطى صفة الإقليمية إلى الدولية، لا سيما أن منطقة المحيط الهادي تشهد صراعاً جيوسياسياً بين قوى كبرى طامحة للتدخل في أي نزاع من أجل تعزيز مصالحها ونفوذها، وهو ما يذكرنا بصراعات الحرب الباردة بين الأمريكان والسوفييت في المنطقة نفسها، ففي عام 2018 مثلاً تسببت هجمات الانفصاليين في مقتل 50 شخصاً، كان جلهم من الإندونيسيين العاملين في مشروع طريق سريع لربط الإقليم ببقية التراب الأندونيسي، الأمر الذي دفع جاكرتا إلى إرسال مئات من جنودها للتصدي، ليرد الانفصاليون بقتل العشرات منهم بالأسلحة الأوتوماتيكية بوحشية، ومنذ ذلك باتت جاكرتا تصفهم بالمجموعات الإجرامية بدلاً من وصفهم بالمتمردين الإرهابيين، لكن ذلك الحدث لا يقارن بما جرى مؤخراً، فقبل نحو 3 أشهر اختطف المتمردون طياراً نيوزيلندياً يدعى «ميرتنز» من مهبط للطائرات، وأحرقوا طائرته (من ضمن أسطول شركة «Susi Air » الجوية الصغيرة المملوكة لوزير مصائد الأسماك الأندونيسي السابق بودجيا ستوتي)، واحتفظوا به رهينة، وأتبعوا ذلك بقتل 13 جندياً من قوات النخبة في الجيش الإندونيسي «كوستراد» كانت الحكومة قد أرسلتهم لإنقاذ الطيار المحتجز في المرتفعات الوسطى، وذلك خلال اشتباكات دارت بين الطرفين، ثم نجحوا في أسر 9 جنود عندما نفذت ذخيرتهم وفقدوا الاتصال مع قيادتهم، وقيل إن المتمردين استهدفوا الطيار النيوزيلندي تحديداً لإرسال رسالة تحذير بضرورة وقف توظيف طيارين أجانب ممن يسعون لبناء مهاراتهم وساعات طيرانهم في مناطق بابوا الغربية ذات التضاريس المعقدة والمثالية للتدريب.

ولعل ما يدعو إلى القلق في أوساط الحكومة والجيش في جاكرتا هو أن المتمردين كانوا في البداية يحاربون بالأقواس والسهام والمناجل، والآن يستخدمون بحرفية أسلحة آلية نجحوا في الاستيلاء عليها، خلال هجماتهم على مواقع للشرطة والجيش.

كما يسود القلق في جاكرتا لسبب آخر مصدره تهديد المتمردين لحياة مجموعة من المبشرين الأجانب الموجودين في المنطقة (من أصل 300 في السنوات الماضية قبل تقييد الحكومة للأنشطة التبشيرية)، خصوصاً أن «إيريان» الغربية تشهد منذ فترة طويلة نزاعات مستمرة بين الكاثوليك والبروتستانت.

والمعروف، طبقاً لبعض التقديرات، أن سكان «إيريان» الغربية البالغ تعدادهم نحو 3 ملايين نسمة، يشكل الأصليون منهم نحو 50 في المائة، نصفهم يدين بالبروتستانتية، في حين يشكل المسلمون 41 %، والكاثوليك نحو 8 %.

جاكرتا مصممة على إنهاء أنشطة التمرد والانفصال في هذا الإقليم الغني بالنفط والذهب والنحاس، وحريصة على عدم تكرار سيناريو تيمور الشرقية مدعوم من كل دول الجوار بما فيها أستراليا، حيث لا تواجه إندونيسيا أي تشكيك في سيادتها على الإقليم، مقابل فشل المتمردين في نيل أي دعم خارجي حتى الآن لمطالبهم بتقرير المصير.

Email