الصينيون قادمون.. أين المفاجأة؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

صعود الصين، في عقود معدودة، إلى مرتبة الوقوف كتفاً لكتف مع قوى تربع بعضها لقرون على قمة النظام الدولي، يمثل ظاهرة مثيرة للجدل والتناظر.

فمقابل من يعتقدون أن العالم بصدد طفرة نوعية إعجازية لدولة آسيوية قديمة، طال خمولها وتهميشها، وإدراجها في أحسن الأحوال ضمن قوائم العالمين الثالث والرابع، هناك من يوقن بأنه لا معجزة ولا غرابة في الأمر ولا يحزنون، لأن تجليات التميز الصيني حقيقة موضوعية واجبة الحدوث تاريخياً، وإن تأخر وقوعها والاعتراف بها بعض الوقت.

كيشور محبوباتي، مؤسس وعميد كلية السياسات في سنغافورة، يدفع بهذا الرأي الأخير. ويذهب هذا الرجل الذي شغل ذات حين منصب وزير خارجية بلاده، وأدرجته دورية فورين أفيرز في العام 2011 ضمن أهم مئة مفكر عالمي، إلى أن «عودة آسيا عموماً والصين بخاصة، إلى صدارة العالم بمثابة إصلاح لشذوذ تاريخي».

ويمضي إلى أن العالم أضحى يتغير بسرعة استثنائية وآية ذلك «اندماج 500 مليون آسيوي معظمهم من الصين في الطبقات الوسطى، ولم يحدث في تاريخ البشر أن غادر مثل هذا العدد دائرة الفقر خلال ثلاثين سنة فقط».

في بحوثه المعمقة، يعلل محبوباتي هذه النتيجة بتخلي القادة الصينيين نسبياً عن بعض الاعتقاد الشيوعي، وفرض اقتصاد السوق على الصين.. تلك الخطوة الجريئة؛ التي أفضت إلى شغل الصين مركزاً اقتصادياً موازياً تقريباً لموقع الولايات المتحدة.

وضمن حيثيات هذه النقلة الهائلة، يشير إلى حكمة القادة الصينيين وبعد نظرهم الاستراتيجي، في التعامل مع واقعهم الاجتماعي السياسي في الداخل ومع المشهد الدولي في الخارج.

فهم لم يتعجلوا إحلال الديمقراطية كما فعل غورباتشوف في روسيا، كما لم يسايروا الاعتماد الأمريكي المفرط على القوة العسكرية في أكثر من قضية.. وذلك إدراكاً منهم لدور النفقات الحربية الفلكية في الإطاحة بالعملاق السوفييتي من قبل.

في كل حال ينتهي الأريب محبوباتي إلى أن «..الأصدقاء الأوروبيين والأمريكيين عليهم إعداد أنفسهم لعالم تساوي فيه كفة آسيا، والصين في الصدارة، كفة الغرب وربما تغلبها وتعلوها..». وهو لا يستهجن هذا التحول الفارق، معتبراً إياه تصحيحاً لمسار التاريخ لأن «..حصة الصين والهند من الاقتصاد العالمي قبل قرنين لم تكن تقل عن النصف..».

من الواضح أن محبوباني ومريديه الكثيرين في الفضائيين الآسيويين الأكاديمي والسياسي، على تماس وثيق بحقل التشوفات والرؤى الخاصة بتحري كيفية ازدهار الحضارات وهبوطها، واستبصار ما يدور في هذا الإطار من عمليات تلاقح وتزاوج وتعاون ناعم أو تنافس وتنازع وصراع خشن، بين القوى المهمومة باعتلاء قمة النظام العالمي.

والمعلوم أن هذا الحقل بات مزدحماً بالمداخلات والتوقعات المشابهة، التي تكاد تلتقي على أن عالمنا يتقدم من حيث عناصر القوة الشاملة، الاقتصادية منها بالذات، في طريق آسيوي الهوى؛ تمارس فيه الصين دوراً ريادياً فاعلاً. الأمر الذي ربما يطيح بزمن انفراد الغرب بهذه القمة وأفول عهد الأحادية القطبية الأمريكية.

وليس بلا مغزى على إلحاح هذا التصور، رصد ما يشبه تبادل السمات والنوازع وأساليب الحركة بين الصين من ناحية وبين القوى الغربية وعلى رأسها المعلم الأمريكي من ناحية أخرى.

ومؤدى ذلك بإيجاز أن عالم الغرب صار مؤخراً أكثر التزاماً بالجمود السياسي والدوغمائية الإيديولوجية والعسكرة.. بينما راح المسؤولون الصينيون، على صعيدي الفكر والحركة، يفضلون التكيف والبراغماتية والمرونة التفاوضية وعرض المبادرات البناءة المغموسة بالذكاء وبعد النظر.

هذا التحول الفارق في المواقع وأنماط التعامل، الذي جعل من الصين قبلة كبيرة للعولمة وسوقاً مفتوحاً، أمام الخلق أجمعين تقريباً، لم يأتِ عفو الخاطر. الأمر وما فيه، طبقاً لدراسات مختصة حديثة، أن القادة الصينيين أدركوا بعد جهد جهيد، أن ضعف بلدهم حتى منتصف القرن الماضي، يعود إلى عزلتها عن العالم..

وأنه لا سبيل يضمن انتعاشها الاقتصادي وحضورها السياسي غير الانخراط في الاقتصاد والسياسة والثقافة بالمعاني القارية والعالمية، وهو ما جري عملياً، وفق حسابات دقيقة في العقود الأخيرة الأربعة.

يقيناً، يخطئ الآن من يحسب أن الصينيين سيتخلون عن هذه الصحوة، أو أن طرفاً ما سيعيدهم جبراً إلى القمقم.

ولعله من الحكمة بمكان، أن يعترف المعنيون، بأن كياناً يشغل ما تشغله الصين في خريطة كوكبنا على صعد الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا والعلوم والثقافة...، يحق له بالانتخاب الطبيعي أن يتبوأ مقعده على طاولات الكبار. أما حدود قبول الآخرين بهذه المكانة وكيفية التعامل معها فمسألة أخرى.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email