العلاقات الصينية - الماليزية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد عودته إلى بلاده من زيارته الأولى إلى بكين، منذ وصوله إلى السلطة، وهو المنتشي بحصوله على تعهدات استثمارية من العملاق الصيني، بقيمة 39 مليار دولار، قوبل الزعيم الماليزي أنور إبراهيم باتهامات لاذعة بأنه فرط في سيادة الوطن ومصالحه مقابل حفنة من الاستثمارات، في إشارة إلى عدم إثارته قضية الجزر والمياه المتنازع عليها، خلال محادثاته في بكين، وقيامه بدلاً من ذلك بكيل المديح لنظيره الصيني «شي جينبينغ»، ووصف الأخير بـ«صاحب الرؤية الذي أعطى بصيصاً من الأمل للعالم والبشرية»، بل واقتراح فكرة التنقيب المشترك عن الطاقة في المياه محل النزاع.

وسرعان ما رد أنورإبراهيم بالقول إن تصريحاته أسيء تفسيرها، وإن المعارضة تستغل قضية جيوسياسية معقدة، من أجل تسجيل النقاط ضده، والحقيقة أن التجاذبات السياسية الداخلية في ماليزيا جعلت قضية العلاقة مع بكين تتصدر النقاشات والمماحكات اليومية، واتخذت من النزاعات البحرية معها موضوعاً رئيسياً.

والمعروف أن ماليزيا كانت من أوائل الدول الإقليمية، التي طبعت علاقاتها مع الصين الشيوعية زمن مؤسسها ماو تسي تونغ، ثم راحت تتصرف بواقعية حيال نزاعاتها البحرية مع بكين مستخدمة الدبلوماسية الهادئة، ما جعل شريكاتها في رابطة «آسيان»، من تلك التي لها النزاعات السيادية نفسها مع بكين، تصفها بوكيلة الصين ومحاميتها في الرابطة، خصوصاً في ظل تبني كوالالمبور آنذاك مواقف رافضة للتحالفات العسكرية الغربية في المنطقة.

وإذا ما تفحصنا العلاقات الماليزية الصينية قبل وصول إبراهيم إلى سدة الزعامة فسنجد أن كل أسلافه ممن اختلف معهم، وناصبهم العداء انتهجوا سياسات مهادنة مع الصين، بل سعوا إلى كسب ودها لأسباب اقتصادية، فعلى سبيل المثال سجلت التجارة البينية بين البلدين على مدى السنوات الـ 14 الماضية ارتفاعات متتالية حتى بلغت قيمتها نحو 203 مليارات دولار في 2022، وفي ظل إدارة الزعيم الماليزي الأسبق نجيب رزاق بلغت الشراكة الاستراتيجية بين البلدين ذروتها، خصوصاً مع انخراط حكومة رزاق بحماس في «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، وبعد عودة مهاتير محمد إلى السلطة سنة 2018 خلفاً لرزاق تعرضت تلك الشراكة لانتكاسة مؤقتة، بسبب مواقف مهاتير المنتقدة لآليات المبادرة، لكنها سرعان ما عادت إلى صلابتها، بعد أن حصل مهاتير على تطمينات وتنازلات صينية، خلال زيارة قام بها إلى بكين.

وهكذا يمكن القول إن إبراهيم لم يخرج عن النهج، الذي سار عليه أسلافه حيال التعامل مع العملاق الصيني، وحق له أن يتفاخر بأنه تمكن من الحصول على استثمارات صينية مضمونة أعلى بكثير مما حصل عليه أسلافه، وإن صاحب ذلك أقاويل واتهامات من قبيل أنه يسعى من وراء تقربه من الصين إلى محو الانطباع، الذي خلقه غريمه مهاتير في أذهان بعض الماليزيين بأنه سياسي موال للغرب.

مما لا شك فيه أن إبراهيم يسعى جاهداً إلى إصلاح الخلل الاقتصادي والمعيشي، الذي تسبب فيها عدم استقرار منظومة الحكم وتداعيات جائحة كورونا خلال السنوات القليلة الماضية، وذلك بالاعتماد على دعم العملاق الصيني، وهو في سعيه هذا يحاول أن يخلد اسمه في تاريخ بلاده كونه زعيماً كفؤاً وصاحب رؤية من بعد سنوات من الاعتقال والمهانة والتهم الكيدية، لكن محاولته هذه تصطدم بوجود نزعة قومية، لا سيما في صفوف ناخبيه من ذوي العرق الملايوي، رافضة لتقديم أي تنازلات للصينيين، ومطالبة بأن تواصل حكومة إبراهيم مساعي سابقة لانتزاع حقوق البلاد السيادية على نحو ما تفعله الفلبين وفيتنام، فما هي تلك المساعي؟

يذكر أن ماليزيا قدمت في أواخر 2019 طلباً إلى لجنة الأمم المتحدة للجرف القاري تطعن فيه بمطالبات بكين بالأجزاء الجنوبية من بحر الصين الجنوبي، بل وصف وزير خارجيتها آنذاك سيف الدين عبدالله المطالب الصينية بأنها بلا سند قانوني، وذهب إلى حد التهديد باللجوء إلى محكمة العدل الدولية على غرار ما فعلته الفلبين.

وبعد أشهر من ذلك قامت ماليزيا بأنشطة استكشاف بترولية أحادية في المياه المتنازع عليها، من خلال شركة بتروناس الحكومية، متحدية الصين، ومسترشدة بما فعلته فيتنام.

وفي عام 2020 قدمت حكومة رئيس الوزراء السابق إسماعيل صبري يعقوب مذكرة احتجاج لبكين على وجود أنشطة صينية بحرية قبالة سواحلها، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، وفي العام نفسه اتهمت ماليزيا سلاح الجو الصيني بانتهاك مجالها الجوي، معلنة أن علاقاتها الودية مع الصين لا تعني التفريط بسيادة البلاد وأمنها القومي، وكونها نتيجة لهذه التوترات قررت ماليزيا في عام 2021 الانضمام إلى عملية التعاون والتدريب في جنوب شرق آسيا «SEACAT» بقيادة واشنطن، ثم قامت بمناورات جوية مشتركة مع الأمريكيين في بحر الصين الجنوبي، ومن هنا فإن تودد إبراهيم للصين واقتراحه عملية تنقيب مشتركة في مياه يعتبرها الماليزيون حقاً لهم جعل الرجل في حيرة، ووضعه في فوهة المدفع.

Email