إرنيست فلوير.. قراءة للتاريخ المنسي من بلوشستان إلى مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المستكشفين البريطانيين الذين لا يتردد ذكرهم كثيراً في الأدبيات الخاصة بتاريخ الخليج العربي الكابتن «إرنيست إيسكوج فلوير» (Ernest Ayscoghe Floyer) الذي عاش في الفترة من عام 1852 إلى 1903.

وربما كان سبب ذلك أن رحلاته الاستكشافية وأبحاثه وكتاباته تركزت أولاً حول السواحل المطلة على خليج عمان بحكم عمله الرسمي في تلك المناطق، قبل أن ينقل اهتماماته صوب مصر والسودان في أعقاب انتقاله إلى هناك لخدمة المصالح البريطانية.

على أنه في السنوات الأخيرة ظهرت بعض الدراسات وصدرت بعض الكتب التي استندت إلى ما قام به فلوير من جهود استكشافية وبحثية لمناطق ظلت مهملة أو مجهولة للباحثين والدارسين لحقب طويلة. ففي عام 2008 مثلاً صدر في بيروت كتاب «رحلة الكابتن فلوير 1876 عبر الساحل في نهاية العهد العثماني: إعادة قراء للتاريخ والوجود العربي على ساحل مكران» لمؤلفه العماني «بن دغار»، متضمناً رصداً دقيقاً لتاريخ الوجود العربي على ساحل مكران.

وطبقاً للمؤلف فإن السبب الذي دفعه للتنقيب في مؤلفات فلوير وترجمة الأجزاء الرئيسية منها ثم إصدارها في كتاب هو أن جده «محمد آل دغار» كان لا يكف عن الحديث عن تاريخ جده الكبير إبان الحكم العربي لساحل مكران. واعترف المؤلف في مقدمته أنه ليس متخصصاً في التاريخ، لكنه رغب أن يوصل معلومات تاريخية مجهولة تستحق أن يعرفها القارئ العربي، خصوصاً في منطقة الخليج، وأن يطلع عليها كل باحث أو منشغل بالتاريخ السياسي للمنطقة.

وقد اشتمل الكتاب على ترجمة لمقدمة كتبها الجنرال «فردريك غولدسميث» (أحد كبار ضباط حكومة الهند البريطانية) لكتاب «فلوير»، حيث كان هذا الضابط الرفيع يترأس وقتذاك لجنة الحدود المشتركة بين حكومة الهند البريطانية. وقد أكد غولد سميث في مقدمته أهمية رحلة الكابتن فلوير لأنها غطت منطقة مهمة وغير معروفة كثيراً في حينه أي عام (1882) عند صدور الكتاب في لندن.

لكن مَن فلوير هذا؟ وكيف استطاع التوغل في تلك المناطق المجهولة؟ وما هي التحديات التي واجهته في رحلته المثيرة؟

ولد الضابط ومهندس التلغراف والمستكشف البريطاني إرنيست أيسكوج فلوير بمقاطعة لينكولنشاير في إنجلترا في 4 يوليو 1852 ابناً أكبر لوالده القس أيسكوج فلوير ولوالدته لويزا سارة ابنة أحد رجالات الخدمة المدنية في البنغال. ودرس ما بين عامي 1865 و1869 في مدرسة تشارتر هاوس الداخلية، إحدى أقدم المدارس البريطانية وأفضلها وأغلاها وقتذاك، ثم التحق بحكومة الهند البريطانية وهو شاب يافع.

في تلك الفترة، التي أعقبت تمرداً هندياً ضد الإنجليز، وتحديداً ما بين عامي 1857 و1858، شعر الإنجليز بحاجة ملحة إلى وجود اتصالات أسرع بين لندن والهند، فبدأت الجهود في عام 1859 لإنشاء اتصالات تلغرافية مباشرة بين الجهتين.

وفي عام 1862 انتهت بريطانيا من بناء خط تلغراف يمتد من كراتشي غرباً على طول ساحل بلوشستان في مكران، وحتى أقصى الغرب في تشاهبهار ببلاد فارس، وفي عام 1868 تمّ تمديد الخط إلى بندر جاسك ومن ثم إلى بوشهر عن طريق كابل بحري، حيث انضم إلى خط ظهران شمالاً. وهذا الخط عرف باسم «خط التلغراف الهندو ــ أوروبي (IETL)، وترأسه من سنة 1864 الجنرال سير فردريك غولدسميث المشار إليه آنفاً.

كان لدى IETL محطات فرعية في كراتشي وباسني وغوادر وتشاهبهار وجاسك وبشر والفاو. ورغم أن فلوير وصل للعمل في الهند البريطانية سنة 1870 وهو في الثامنة عشرة من عمره، إلا أن الجنرال غولدسميث وجده شخصاً ذكياً وطموحاً فعينه رئيساً لمحطة التلغراف الفرعية في ميناء جاسك، فخدم هناك لمدة سبع سنوات انتهت في عام 1877. كان فلوير محظوظاً لأنه خدم تحت قيادة غولدسميث الذي كان يشجع مرؤوسيه من موظفي محطته والمحطات الفرعية للتلغراف على استكشاف محيطهم والكتابة عنه.

وهكذا استجاب فلوير لدعوة رئيسه وأخذ في عام 1876 إجازة طويلة لمدة سنة، قام خلالها ــ رغم اعتلال صحته ــ بثلاث رحلات على نفقته الخاصة انطلاقاً من قاعدته في جاسك. شملت رحلته الأولى شمال شرق بلوشستان حتى«فاني» و«مسكتان» و«بامبور».

وشملت رحلته الثانية جزر وموانئ الخليج العربي مثل جزيرة «هنغام» وجزيرة «قشم»، حيث قابل حاكمها العربي الشيخ صقر القاسمي، و«بندر عباس» ثم قرية «ميناب» التي التقى فيها بأميرها عبدالنبي بن محمد.

أما رحلته الثالثة فقد قادته إلى منطقة «باشكيرد» شمال جاسك والتي لم تكن مستكشفة وغامر حتى بلغ قاعدتها «أنجوهران»، ثم زار أيضاً في هذه الرحلة «سردشت» و«صحربافيك» و«جيدان» و«دربان» و«سندرك» و«كرمان»، ومر على البحرين ومناطق أخرى في الخليج العربي.

والحقيقة أن رحلاته في هذه المجاهل لم تكن سهلة، بالرغم من إجادته اللغتين الفارسية والبلوشية، بل كانت محفوفة بالمخاطر، خصوصاً في ظل انتشار السلاح وتكرر حوادث القتل والسرقة. لكنه امتلك الشجاعة لتحدي الصعاب وكافة المعوقات، وانطلق دون حماية من الشرطة، مستعينا بمساعدة بعض الأدلاء البلوش الثقاة ممن جندهم في جاسك، ومستخدماً الجمال والبغال في تنقلاته، ونجح في تسجيل ملاحظات مستفيضة عن الناس وعاداتهم ولغاتهم ولهجاتهم، وعن النباتات والحيوانات والتضاريس الجغرافية، وغير ذلك من المعلومات الهامة التي نشرها سنة 1882 في كتابه «بلوشستان غير المكتشفة» الذي احتوى على ملحق خاص تضمن مسحا للعبارات القصيرة بست لغات منها البلوشية والبشتونية، ناهيك عن ملاحق أخرى تضمنت قوائم بالنباتات ومعلومات مفصلة عن القياس وخطوط العرض والطول للأماكن التي زارها، ومعلومات قيمة أخرى عن الوجود العماني على ساحل مكران وصراع القواسم مع الإنجليز وتحالف قبائل البلوش ضد حكومة القاجاريين الفارسية، ومساعدتهم لسلاطين عمان في إنهاء الصراعات والتمردات الداخلية حينما نشبت حروب بين أبناء الإمام سلطان بن سيف بن سلطان اليعربي.

وقد أكسبته ملاحظاته واستطلاعاته وخرائطه الدقيقة هذه سمعة طيبة كمستكشف جريء وذكي ولماح ودقيق في عمله.

في عام 1878 غادر فلوير سواحل الخليج العربي نهائياً إلى القاهرة للعمل بها مفتشاً عاماً للبرقيات المصرية (أنيطت به لاحقاً مسؤوليات إدارة السكك الحديدية والمزارع في مصر بالإضافة إلى إدارة التلغراف).

وفي مصر نشط كثيراً وتمكن من إجادة اللغة العربية ونجح في تحويل التلغراف من مشروع يخسر سنوياً إلى مشروع يدر أرباحاً كبيرة، واقترح على الحكومة المصرية تخصيص جزء من فائض الأرباح في إجراء تجارب لتنمية الأراضي الصحراوية وزراعتها بالأشجار والنباتات، بل أشرف بنفسه على هذه التجارب ونجح في زراعة نباتات لم تكن معروفة، كما نجح في اكتشاف نترات الصودا في طين الصعيد، فعينته الحكومة مشرفاً على عمليات استخراجه.

وفي عام 1887 قام بمسح طريقين صحراويين بين النيل والبحر الأحمر، ما أغرى الخديوي بتكليفه قيادة رحلة استكشافية في جنوب الصحراء (حوالي شمال خط العرض 24 درجة)، حيث نجح فلوير وفريقه في إعادة اكتشاف مناجم الزمرد في جبل «سكيت» وجبل «زباره» الواقعين اليوم ضمن محافظة البحر الأحمر، والتي كانت مهجورة ومندثرة لحقبة طويلة. ونتيجة لتقريره أعيد فتح هذه المناجم وجرى استغلالها.

ونظراً لاستكشافاته هذه معطوفة على نجاحه في وضع خرائط دقيقة ورسومات توضيحية للعديد من المناطق لخدمة السلطات العسكرية والأمنية فقد تمّ تكريمه بمنحه الميدالية البريطانية (مصر 1882) الحاملة لقفل النيل والنجمة البرونزية للخديوي.

لم يكتف فلوير بكل ما سبق، فقام، مدفوعاً بحبه للمعرفة وعشقه للعمل والإنجاز، برحلات استكشافية عدة إلى صعيد مصر بين عامي 1884 و1898، وكتب العديد من المقالات عن جغرافيتها وطبيعتها الجيولوجية ونباتاتها ومحاصيلها وطباع وعادات ولهجات سكانها من تلك التي نشرها في مجلة المعهد المصري (جورنال دو لانستيتيوت ايجبسيان). وقام أيضاً برحلة استكشافية سنة 1892 قادته إلى مناجم شمال صحراء العيتباي (صحراء بلاد البشارين بشمال شرق السودان في المثلث المحصور بين الحدود السودانية المصرية من جهة مثلث حلايب ووادي العلاقي).

إلى ذلك لعب هو وموظفوه في التلغراف دوراً مهماً في الحفاظ على استمرارية الاتصال بالحامية المصرية في السودان إبان ثورة المهديين سنة 1881. وفي عام 1884 قام برحلة من حلفا إلى دبا في محافظة دنقلا برفقة الضابط البريطاني الكبير في مخابرات الجيش المصري «هربرت كيتشنر».

كما أنه ظل يتواصل كتابياً وتلغرافياً بصورة منتظمة مع الجنرال غوردون الحاكم العام البريطاني للسودان قبل مقتل الأخير في الخرطوم سنة 1885م على أيدي القوات المهدية المتمردة، خصوصاً في الفترة المضطربة التي عين فيها مفتشاً على تلغراف السودان. وقد تمّ نشر أحد تقاريره التلغرافية إلى غوردون في جريدة «رينولدز» بتاريخ 24 أغسطس 1884 وفيها وصف لما كان يحدث حوله، حيث نجده يقول: «أكتب من دنقلا. الناس هنا مسلحون حتى أسنانهم. حتى حلاقي يأتي إليّ وفي يده رمح ضخم ومقبض الحلاقة في يده الأخرى. لقد أمر وكيل دنقلا عزالدين بك رجاله بجمع ألف جمل في محطة السكك الحديدية للمساعدة في نقل المخازن جنوباً».

وقبل ذلك وهو في طريقه لتسلم مكتب تلغراف السودان أرسل للجنرال غوردون يخبره بوصوله إلى «دبا»، وعدم تمكنه من تجاوزها للوصول إلى مقر عمله الجديد بسبب مخاطر الطريق حينذاك، قائلاً إنه مضطر للعودة إلى «حلفا» واستخدام الطرق النهرية.

من بعد فترة قصيرة مزعجة قضاها في السودان، عاد فلوير إلى مصر لمواصلة عمله، وظل يعيش بها حتى تاريخ وفاته سنة 1903. وقد خلف وراءه حين وفاته، التي أحزنت الكثيرين من المصريين ممن صادقوه أو عملوا معه، قرينته التي تزوجها عام 1887، وأبناءه الثلاثة الذين أنجبهم منها.

إن من يطلع على الروايات التي دونها فلوير في كتبه عن الزمان والمكان وعن البشر والحجر والنبات، لا بد أن يخرج بانطباع قوي عنه كرجل يحمل بداخله روح الدعابة وملكات التواضع وسعة الحيلة والقدرة على تخطي العقبات بذكاء وعبقرية.

لذا لم يكن غريباً أن يتردد اسمه كثيراً في العديد من أعمال الآخرين، مثل كتاب «الحياة والرسائل واليوميات» للجنرال البريطاني سير جيرالد غراهام الذي حارب في القرم والصين وخدم في مصر وشرق السودان، وكتاب «قصة حياتي» للمستكشف واللغوي البريطاني سير هاري جونستون، الذي قضى جل حياته في استكشاف مجاهل وأدغال أفريقيا السوداء، وكتاب «عشرة آلاف ميل في بلاد فارس» لسير بيرسي مولسوورث سايكس الصادر في عام 1902م والذي يعد أحد المؤلفات الجغرافية والتاريخية والمعرفية المهمة حسب تصنيف الأكاديميين.

Email