أزمة تونس.. إما حياة وإما فناء

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعلنت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، في حديث لإحدى القنوات العربية، أن الصندوق يرغب في تجاوز الخلاف مع تونس بخصوص برنامج الإصلاحات، وقالت: «لا نريد فرض أي شيء على تونس يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرارها المجتمعي، ونأمل في التوصل إلى حل حول برنامج إصلاح اقتصادي قابل للتطبيق وله مصداقية وقادر على إخراج تونس من أزمتها ولا يضر باستقرارها».

وكان مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي جهاد أزعور أكد الخميس الماضي أن الصندوق لم يفرض أي إملاءات على تونس، مضيفاً أن «برنامج الإصلاحات الذي تقدمت به للحصول على تمويل هو برنامج «تونسي بحت».

وتأمل تونس في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.9 مليار دولار، وهو قرض مشروط بضرورة القيام بإصلاحات مهمة ترى أطراف عديدة وخصوصاً اتحاد العمال، أنها تهدد استقرار المجمع.

وتكمن أهمية التوصل إلى اتفاق بين تونس وصندوق النقد الدولي في أن هذا الاتفاق هو الشرط الضروري لإبرام اتفاقات مع الجهات المانحة الأخرى.

وتتفق جل هذه التصريحات مع ما تصرح به جهات حكومية تونسية، ومن ذلك ما عبر عنه مؤخراً وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد، الذي قام الأسبوع الماضي بنشاط حثيث لدى مؤسسات مالية دولية وإقليمية، حيث أكد «أهمية التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في أقرب الآجال حتى ينطلق العمل مع باقي الشركاء في تنفيذ برامج التعاون التي تم تدارسها»، ولكن هذا التوافق يصطدم بما أضحى جلياً من اختلاف بين توجه الرئيس التونسي قيس سعيد نحو ضرورة إرساء اقتصاد تضامني، تلعب فيه الدولة دور الراعي والحامي لمصالح كل الأطراف وبالخصوص الفئات الضعيفة والمهمشة وذلك عن طريق القطاع العام ومؤسساته، والتوجه الاقتصادي الليبرالي لأغلب أعضاء الحكومة التونسية.

وبقطع النظر إن كان هذا الاختلاف حقيقياً أم هو مجرد توزيع أدوار فإن الثابت المعلوم أن وجه الحقيبة الأول هو أن الاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد العمال) يرفض بقوة مجرد الحديث عن رفع دعم الدولة للمواد الأساسية، كما يمتلك رؤية مختلفة بخصوص عملية التفويت في مؤسسات القطاع العام، ووجهها الثاني هو أن هذه الثوابت تلتقي مع أفكار الرئيس قيس سعيد رغم إصراره على إدامة الخلاف مع المنظمة العمالية لأسباب ربما تتعلق برؤيته الفكرية، التي ترفض وجود الوسائط الحزبية والنقابية.

الثابت كذلك أن تعدد الرؤى حول برنامج الإصلاح الاقتصادي قد يكون أسهم في تليين مواقف صندوق النقد الدولي، الذي بدأ مسؤولوه يتحدثون عن غياب أي شروط من جانبه.

وفي كل الأحوال بدا أن هذا الاختلاف إلى جانب التزايد المفزع للهجرة غير الشرعية من العوامل المهمة في التحول الملحوظ لمواقف وسياسات صندوق النقد الدولي تجاه تونس، ولكن العامل الأساسي والحاسم في ذلك كان الضغط المباشر، الذي مارسه الاتحاد الأوروبي وتحديداً إيطاليا على الجهات المانحة وعلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل التسريع بتوقيع الاتفاق مع تونس، وذلك لتجنيبها حالة انهيار للدولة والمجتمع، بما يعني ذلك من تداعيات سلبية مباشرة على أوروبا.

إن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة التي تعرفها دول الاتحاد الأوروبي جراء تبعات أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية ستشتد أكثر في حال انهيار اقتصادات ودول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وبالتالي فإن التحرك الإيطالي والأوروبي عموماً قد يجنب تونس حالة الانهيار، ويفرض بالتالي على صندوق النقد الدولي التنازل عن «إملاءات» تدخل في صميم تقاليده وعاداته، وهي إملاءات حاول فرضها على عديد الدول، ومنها تونس بقطع النظر عما سببته من هزات اجتماعية هددت استقرار هذه البلدان.

إن ما هو مطلوب من دول عاشت، وتعيش هذا المصير كتونس هو، تقوية جبهاتها الداخلية والتقدير الجيد لموازين القوى الإقليمية والدولية ولمصالح الدول، وألا تغتر بما جرى ويجري كأن تسقط في تضخيم قوتها ودورها.

وإنه من الضروري لتونس، التي يكاد يكون الإجماع حاصلاً في الداخل والخارج بأن دوام حالها هذا من المحال، وذلك للارتباط الموضوعي بين وضعها والوضع الإقليمي والدولي، أن تنصرف بجدية إلى معالجة أسباب تراكم وتفاقم أزماتها، وذلك بتجنيد كفاءاتها وزادها المعرفي التاريخي وعراقة دولتها، بعيداً عن منطق المؤامرة والتجريبية والهواية والطوباويات الثورية، إن الثورات هي الأخرى حقيقة تاريخية، ولكن تونس لم تعشها مطلقاً ولن تعيشها في المستقبل، لأنها لا تحتمل التطرف والتاريخ عموماً يُفسده المتطرفون، وإن ما صرح به السبت الماضي رئيس حركة النهضة الإخوانية من «تونس بلا إسلام سياسي هي مشروع حرب أهلية» يؤكد مرة أخرى أن الجبهات الوطنية وإن كانت ضرورية فهي لا تتحمل وجود المتطرفين، الحركات الإخوانية مثالاً.

إن ظاهر الأزمة في تونس أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية قد تذهب باستقرار المجتمع والدولة، ولكن باطنها هو الخطر الإرهابي، الذي يتخفى وراء الديمقراطية، وهو ما ينبغي على الداخل والخارج استيعابه، والاقتناع به.

Email