أنظمة تحت وطأة الاحتجاجات المجتمعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يصدر المجلس الدستوري الفرنسي يوم الجمعة المقبل قراره بخصوص قانون إصلاح أنظمة التقاعد الذي تمّ إقراره باعتماد آلية الفصل 49.3 الدستورية التي تمكن الحكومة الفرنسية من تمرير القانون دون المرور بتصويت البرلمان بغرفتيه (الجمعية العامة ومجلس الشيوخ)، والمعلوم أن هذا القانون لقي ويلقى معارضة شديدة من تجمع النقابات العمالية التي دخلت منذ أكثر من شهر في حركات احتجاجية مدعومة من بعض القوى السياسية اليسارية بالخصوص.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 92 في المائة من الجسم العامل في فرنسا وأكثر من 70 في المائة من عموم الفرنسيين يرفضون هذا القانون، كما يعتبر أغلب الطيف السياسي والبرلماني أن فرض هذا القانون دون تصويت عليه - وإن كان عملاً مرتكزاً على الدستور - هو غير ديمقراطي لجهة أنه يتعارض مع إرادة الناخبين وعموم المواطنين الفرنسيين.

وقد بدأت التساؤلات تثار حول بعض الآليات المعتمدة في النظام السياسي الفرنسي المسمى بـ «الجمهورية الخامسة» التي أرسى دعائمها الأساسية الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول، كذلك الأمر ما انفك منسوب انعدام الثقة في مؤسسات الدولة يكبر.

ويبدو أن مثل هذه التساؤلات وأيضاً تراجع منسوب الثقة في المؤسسات أصبح مطروحاً في دول ليبيرالية غربية أخرى عدة، ويخشى المراقبون أن تتحول أزمة الثقة هذه إلى أزمة حُكْمٍ وأنظمة مظهرها الأساسي النقص الفادح في الآليات الديمقراطية وتنامي رفض الشعوب للأنظمة التمثيلية وللآليات الانتخابية التي تفرزها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها، ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة وكذلك ما جرى في البرازيل في ظروف مشابهة.

ويمثل صعود قوى التطرف من اليمين واليسار في عدد من الدول الأوروبية بالخصوص مظهراً آخر من مظاهر أزمة المنظومة الليبرالية.

ويولي المراقبون أهمية بالغة لما يجري في فرنسا بحُكْمِ دورها التاريخي في إرساء النموذج الليبرالي الغربي المؤسس على الحريات في المجالين الاقتصادي والسياسي، حيث لم تشهد فرنسا في تاريخها المعاصر تباعداً بين النخبة الحاكمة وعموم المواطنين الفرنسيين مثلما تعيشه الآن، إذ ما انفكت الهوة تكبر بين سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأطراف النقابية والسياسية الرافضة لهذه السياسات ولمشاريع الإصلاح المقترحة من الحكومة الفرنسية.

ويعتقد المراقبون أن الفترة المتبقية من حُكْمِ ماكرون طويلة ويرون أنه لا يستطيع ممارسة الحكم على مدى السنوات الأربع المقبلة بسياسات وإصلاحات ترفضها أغلب الأطراف النقابية والسياسية.

ويزيد من حدة الأزمة التي تعرفها فرنسا تدهور الوضع المعيشي للمواطن الفرنسي، حيث تشير الاستبيانات الحديثة أن 42 في المائة من الفرنسيين لا يتناولون أكثر من وجبة واحدة في اليوم نتيجة ارتفاع نسبة التضخم التي انعكست على مستوى الأسعار، وهو ما يبدو أنه أعطى دفعاً وزخماً كبيرين للحراك المجتمعي الذي اكتسى في بعض الحالات طابعاً عنيفاً، في احتجاجات دفعت فرنسا إلى تأجيل زيارة الملك البريطاني تشارلز الثالث، ويخشى معه أن تتحول الإضرابات والاحتجاجات المجتمعية إلى شكل من أشكال الانتفاضة التي قد تفلت عن كل سيطرة «متى غيّر المواطن من طبيعة غضبه»، كما عبّر عن ذلك رئيس إحدى النقابات العمالية المؤثرة، وإذا التحمت فيها كذلك المطالب المجتمعية مع برامج بعض الأطراف السياسية التي تتحدث عن ضرورة الانتهاء مع الجمهورية الخامسة وإلى التغيير الجذري في النظام السياسي.

ويعتقد أنه في ضوء استمرار الوضع على ما هو عليه من رفض مجتمعي للسياسات التي تقودها الحكومة الفرنسية وفي غياب خدمات مجتمعية قادرة على تحسين المستوى المعيشي للمواطن الفرنسي بما يضمن جودة الحياة ومتى تواصل الإحساس بغياب الديمقراطية والحد الأدنى الأخلاقي في العمل السياسي وأمام تراجع ثقافة التسامح وتنامي خطابات الحقد، يبدو أن القادم أصعب وأشد.

Email