تقع ولاية صور في شمال الساحل الشرقي لسلطنة عُمان، مطلة على مياه بحر العرب، وقد منحها موقعها شهرة تاريخية بوصفها منفذاً عمانياً للتجارة والأسفار إلى مختلف أصقاع العالم، وملتقى للأساطيل الشراعية، وحوضاً لبناء السفن التقليدية، ومركزاً حضارياً منذ زمن الفينيقيين، كما أن هذه الولاية أنجبت الكثير من المشاهير قديماً وحديثاً، فهي مثلاً مسقط رأس العديد من المؤرخين والأدباء والشعراء والوزراء والسفراء ورجال الأعمال والفنانين والنواخذة ومكتشفي الطرق البحرية من أبناء السلطنة.
أحد هؤلاء هو المرحوم الشيخ «سعود بن سالم بن عبدالله بهوان المخيني»، المولود بمدينة صور في حدود عام 1937، والمتوفى بفرنسا في أغسطس 2008 عن واحد وسبعين عاماً، والذي سنتناول هنا سيرته؛ كونه واحداً من أبرز رجال الأعمال العمانيين ممن بدأوا من الصفر وقاوموا الشدائد والمحن بعزيمة وإصرار إلى أن وصل إلى القمة وتربّع عليها إمبراطوراً من أباطرة تسويق المركبات اليابانية والكورية.
أحبّه العمانيون وذرفوا العبرات حزناً عليه يوم وفاته؛ لأنه فاق الآخرين في تقديم المعونات والمساعدات الخرافية، بلا حدود، وبلا منة، ودون انقطاع، وذلك من خلال جمعيته الخيرية غير الربحية التي أطلقها سنة 2004. وقد شملت مساعداته، التي امتدت إلى مختلف مناطق وولايات السلطنة دون تمييز، الأرامل والأيتام والمطلقات وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والراغبين في الزواج، بل شمل أيضاً برعايته طلبة العلم، فوفر لهم فصول الدراسة المكيفة والغذاء والكساء والمياه المبردة ومصاريف الجيب والبعثات الخارجية والداخلية.
إلى ذلك، شملت أعماله الخيرية المرضى، فزوّد مستشفيات السلطنة ومستوصفاتها بوحدات إسعاف مركزية مجهزة بأحدث الوسائل الطبية حتى يكون بالإمكان إجراء عمليات جراحية سريعة داخلها، بل راح الرجل يتنافس تنافساً محموماً مع أخيه الأكبر رجل الأعمال «سهيل بهوان» في أعمال الخير والبر والإحسان الأخرى، كبناء المنازل لذوي الدخل المحدود، وتأهيل ذوي الإعاقة من الأطفال، ودعم دور الأيتام والطفولة والمسنين، فزادهما الله من بركاته وجعل أعمالهما ومشاريعهما في نماء وازدياد.
في طفولته عاش بهوان حياة مغايرة لحياة أقرانه من أطفال صور، فبينما كان هؤلاء يتعلمون وينامون ويلهون ويمارسون الألعاب الشعبية الدارجة، كُتب على الطفل سعود بهوان، الذي لم يكن قد أتم بعد التاسعة من عمره، أن يشقى ويتعب ويبحر مع والده في مركب خشبي باتجاه الهند لبيع التمر والسمك المجفف. ومع مرور الوقت وتعدد رحلاته البحرية، معطوفاً على ذكائه وحدسه، فطن إلى أن كسب المال لا يتأتى إلا بالاستقلالية والاعتماد على الذات، فقرر أن يقوم بعمليات تجارية لحسابه الخاص، واتفق مع والده أن يشتري منه مركبه، على أن يسدد ثمنه لاحقاً من المكاسب التي سيجنيها من تجارته.
وهكذا راح الرجل يمخر لجج بحر العرب بانتظام، ناقلاً مواطنيه ما بين مسقط وإقليم ظفار الجنوبي، ومتاجراً في الوقت نفسه في السمن واللبان، ومبحراً في بعض الأحايين صوب أفريقيا لبيع حمولات من الأخشاب، أو صوب الهند لبيع حمولات من التمور والأسماك. وبالعزيمة والإصرار والثبات والتجرؤ على اقتحام أهوال المحيطات الهائجة، تمكن في نهاية المطاف من جمع ما يكفي من الأموال لسداد قيمة المركب الذي اشتراه من والده.
استمر بهوان بعد ذلك يزاول التجارة، ويفتح خطوط اتصال جديدة مع تجار الهند وشرق أفريقيا وعدن والعراق، قبل أن يؤسس مع أخيه سهيل في عام 1965 بمدينة مطرح محلاً تجارياً لبيع مواد البناء وأدوات الصيد البحري تحت اسم «محل سهيل وسعود بهوان». ولم يمضِ وقت طويل إلا وكان الأخوان بهوان يسجلان نجاحهما الأول في طريق الألف ميل، وذلك حينما استطاعا أن يستحوذا في عام 1968 على وكالة ساعات «سيكو»، ثم وكالة أجهزة «توشيبا» الإلكترونية اليابانية في عام 1969.
والحقيقة أن حصوله على وكالة حصرية لهاتين الشركتين اليابانيتين، الذي عدّ منعطفاً مهماً في حياته المهنية، أغراه بدخول حلبة التنافس للاستحواذ على وكالة سيارات تويوتا اليابانية، التي لم يكن لها وكيل معتمد في السلطنة، على الرغم من شهرتها وتزايد الطلب عليها بسبب تدني أسعارها آنذاك مقارنة بأسعار المركبات الأمريكية والإنجليزية. وخوفاً من أن يلتقط أحدهم الوكالة قبله، قرر سعود أن يسافر بنفسه إلى اليابان، فكان أول مواطن عماني يصل إلى طوكيو في العصر الحديث، ليفاجأ باحتجازه في المطار؛ لأن أياً من مسؤولي دائرة الهجرة اليابانية لم يكن قد شاهد من قبل جواز سفر عمانياً. وبعد التأكد من صحة الجواز والتأشيرة الموجودة فيه من السفارة البريطانية في طوكيو أُخلي سبيله. وهكذا لم تمضِ أيام إلا وبهوان في ضيافة مديري شركة تويوتا، يتباحث معهم في أمر تمثيل شركتهم في عمان بحس تجاري رفيع، ويتفق معهم على الدفعة الأولى من السيارات التي سيشحنونها إلى السلطنة.
ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام أن وصول الدفعة الأولى من مركبات تويوتا إلى عمان، وكانت عبارة عن مئة سيارة، بيعت كلها فوراً قبل إنزالها على رصيف الميناء، كان هذا في عام 1975، وفي هذه الأثناء كان بهوان أيضاً قد استعد كما يجب لتسويق تويوتا من خلال بناء وتهيئة صالات العرض وملحقاتها من ورش ومخازن لقطع الغيار وخلافه.
استمرت شراكة الأخوين سهيل وسعود حتى سنة 2002، التي شهدت انفصالهما عن بعضهما البعض، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى خصومات أو نزاعات، فعلاقاتهما العائلية استمرت وطيدة، بل إن تنافسهما ظل في حدود المنافسة الشريفة، على الرغم من عملهما في قطاع اقتصادي رئيسي واحد، هو قطاع استيراد وتسويق المركبات، فبعد الانفصال أسس سعود مجموعته الخاصة تحت اسم «مجموعة سعود بهوان»، وكذا فعل أخوه سهيل، الذي أسس «مجموعة سهيل بهوان»، بل إن سهيلاً اقتفى أثر أخيه لجهة البحث عن وكالة سيارات يابانية لا تقل شهرة عن تويوتا، إلى أن عثر على مبتغاه في وكالة سيارات نيسان في عام 2004، تلك الوكالة التي أضاف إليها لاحقاً وكالات سيارات أخرى يابانية وألمانية وفرنسية وإنجليزية وأمريكية وكورية وصينية ووكالات إطارات بيرلي وهانكوك، إضافة إلى العديد من الأنشطة في مجالات متنوعة.
وفي المقابل نمت وتوسعت مجموعة سعود بهوان أيضاً خلال العقود الماضية؛ حيث تنوعت أنشطتها وزاد عدد موظفيها. واندهش المراقبون من التطورات السريعة في مسيرة سعود بهوان من بحّار فقير معدم إلى ثري يتربع على عرش إمبراطورية من الأنشطة المتنوعة المقدر قيمة أصولها ومبيعاتها ببلايين الدولارات. هذا البحار الفقير الذي فقد كل ما يملك ذات يوم في شرق أفريقيا، فلم يجد أمامه مفراً من قطع الأخشاب وبيعها على قارعة الطريق ليتدبر بعض المال من أجل العودة إلى بلاده، هو نفسه الذي غدا، بفضل الله ثم بفضل عزيمته وثقته بنفسه وإصراره على النجاح، علماً من أعلام المال والأعمال في بلاده، وشريكاً مثالياً لأكبر منتجي السيارات اليابانية. ولعل المفارقة الجديرة بالتأمل هي أن الشخص الذي احتجز في مطار طوكيو ومنع من دخول اليابان، وعومل معاملة المشكوك في هويته، هو نفسه الذي وقف في مسقط في عام 2002، أي بعد أكثر من ثلاثين سنة، أمام ممثل إمبراطور اليابان «أكيهيتو» ليقلده «وسام الشمس المشرقة»، الذي يعد أعلى وسام مدني ياباني، وهو نفسه الذي منح سنة 2003 أعلى وسام مدني عماني «وسام السلطان قابوس» من قبل السلطان الراحل شخصياً.
ظن البعض أن الرحيل المفاجئ لسعود بهوان في عام 2008 سيؤثر على أداء مجموعته التي بناها بالكد والعرق، وظن البعض الآخر أن نبتة الخير التي غرسها الراحل لمد يد العون للمعوزين ستذبل، غير أن ظنونهم لم تكن في محلها، إذ كان الرجل قبل رحيله قد تمكن من نقل إدارته التنفيذية للمجموعة إلى أبنائه، الذين واصلوا ما بدأه والدهم بالوتيرة نفسها من الصدق والأمانة والالتزام والإصرار على اقتحام الصعاب.