فوق البقية مسبقاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمر ببالنا العديد من الشخصيات الخارقة التي عاصرتنا في مراحل الطفولة: سوبرمان وباتمان وسبايدر مان وثور وأعوانهم ولا جامع بينهم إلا أنهم بيض البشرة، بل حتى ذاك البطل الذي خرج من قارة إفريقيا لم يكن أسود البشرة بل أبيض ذي عينين زرقاوين واسمه الأخ طرزان، ثم ندلف إلى شخصيات أكثر حميمية فنرى السنافر المسالمين في قريتهم الوادعة وألوانهم «السماوية» و«البيضاء» بينما جارهم الشرير شرشبيل بثوب داكن طويل يشبه دشداشة «بعض الناس» وبشرة سمراء وشعر أسود وحواجب غليظة لا يتوقف عن الكيد لهم!كاذب ذاك الذي يرى أن الإعلام الغربي منصف أكثر من ساسته، فالفوقية التي يتصفون بها تخرج في كل فلتات لسانهم، ولئن خرج بعض المنصفين منهم فإن الصوت الأعلى دوماً في صف من لا يرى بقية العالم سوى عبء يُضيّق عليهم بحبوحة عيشهم ولا يضيف للمدنية المزعومة شيئاً يُذكَر، بل حتى فلاسفتهم الذين يتغنّى بهم بعض «ربعنا» عنصريون حتى النخاع، فها هو كانت يقول: «العرق الأبيض بطبيعته يمتلك كل المواهب والدوافع، لذلك يستحق المعاينة والدراسة عن كثب أكثر من غيره»، وقبل أن يحاول البعض مسلوب الفكر التبرير له والدفاع عن رجل السلام العالمي كما يوصف، نشير لنصٍ آخر يؤكد فيه أن «الإنسانية تتجلى بشكلها الأبيض في العرق الأبيض، بينما زنوج إفريقيا لا يملكون إحساساً يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة»!

يقول أستاذ العلوم الاجتماعية الألماني دييتر سنغاس في كتابه (الصدام داخل الحضارات): «إن الحداثة الأوروبية ظلت دائماً أكثر هيمنة من تأثير ونفوذ الثقافات الأخرى غير الأوروبية على التطور الأوروبي، ومن ثم ولهذا السبب نفسه فإن التغير الثقافي الراديكالي الناجم عن عملية التحديث المطردة خارج أوروبا لا يمكن كقاعدة عامة تصوّره من دون تأثير أوروبا والغرب»، فما لم يكن الغرب في المعادلة وإلا فإنها محكوم عليها بالفشل، ويجري معه في ذات السياق المؤرخ الشهير نيال فرغسون في كتابه (الحضارة: كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب) حيث يقول بصَلَف: «يزعم البعض أنّ كل الحضارات متساوية، وأنّ الغرب لا يستطيع ادّعاء التفوق على شرق أوراسيا مثلاً، تبدو هذه النسبوية سخيفة بشكل واضح، إذ لم تتمكن أي حضارة سابقة من تحقيق هيمنة على بقية أنحاء العالم مثل تلك التي تمكن الغرب من تحقيقها»!

إنّ هذه الفوقية التي يؤمن بها مفكروهم وفلاسفتهم ليست مجرد ترف فكري أو طرحاً أدبياً لا تبعات كثيرة له، بل هو مرتكز كل هذه العنجهية التي نراها في تصرفات ساستهم تجاه بقية العالم والتحدّث بمنطق «الأستاذية» للثقافات والحضارات الأخرى، فالغربي الأبيض يملك كما يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر فرقاً ثقافياً غامضاً يجعله يسبق نظرائه الشرقيين، لذلك لم يكن غريباً تقسيم الكاتب الشهير جورج أورويل العالم إلى «ناس» وهم العرق الأبيض، و«اللا ناس» وهم بقية العالم الذي لا يُحسَب له حساب!

لنعرف كيف يُعامَل هؤلاء «اللا ناس» نتذكر عندما أصدرت الكنيسة البريطانية فتاوى لجيوشها الذاهبة لغزو قارة أمريكا الشمالية بأنّ سكان تلك الأراضي -الهنود الحمر- مخلوقات شيطانية لا أرواح لها وذلك تبريراً لقتلهم، ليكمل الإنجليز ما فعلته بنادق الإسبان والفرنسيين، والذي تم فيه إبادة قرابة 100 مليون إنسان «مُسالِم» ما زالت السينما الغربية تُظهِره كشرير يريد قتل الأبيض الغازي، وهي روح ما زالت حيّة في اللاوعي الغربي، فمن ينسى ما كتبه رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى لويد جورج في يومياته بعد أن قام طيرانه الحربي بقصف الفلاحين البسطاء في جنوب العراق وأفغانستان: «إنّه لشيء مفيد أن نفعل ذلك، من حقنا أن نقصف هؤلاء الزنوج»!

هذه الفوقية تجعلنا نفهم سبب «القداسة» التي يحيطها الغرب لنظرية داروين للنشوء والارتقاء، والتي لا تؤيدها الأدلة ولا تسندها التجارب، فلئن اعترف الغربي أنّ إفريقيا هي مهد البشرية وعَدَّدَ ما يُسمى أسلاف البشر الأقرب للقرود فإنّ التطور الأخير والذي وصل للإنسان العاقل Homo Sapiens هو من انتقل لأوروبا ليصل فيها البشر لأكمل تطور ممكن، وبذلك يكون من حقه أن يكون المتحدّث باسم الإنسان «الأسمى»!

لا نريد أن نسمع طنطنة «الربع» عن أهمية إنصاف مخترعات الغرب المتحضِّر، فلم يغمط حقهم بها أحد، وهي أمور لا توزّع مجاناً على البشر بل يأخذون مقابلها أضعاف ما تستحق، لكن الحديث عن النظر لبقية البشر وكأنهم مستوى أدنى، وتحقير الحضارات التي امتدت قروناً أطول بكثير من عمر حضارة أثينا وعساكر الرومان وحضارة الغرب الحالية، فطيبتنا لا تعني «التأمين» على ما يقوله الغرب المتعجرف، وفي مَثَلِنا المحلي حكمة بالغة وهو يقول: «اليدار الوطي كلِ يحومه»!

Email