قبسات

مضمار الخير

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخص الله عز وجل من الأمكنة والأزمنة ما شاء منها بالخصائص، ويفضّلها على غيرها بالفضائل، فتعلو منزلتها ويشرف قدرها، كبيت الله الحرام من الأمكنة، والعشر من ذي الحجة من الأزمنة، مثلاً. وإن رمضان على رأس تلك الأزمنة التي خصها الله عز وجل بمزيد فضل وشرف.

اصطفى الله عز وجل هذا الشهر موعداً لنزول القرآن فيه، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة 185]، وذلك في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر كما قال سبحانه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.

فليلة القدر من رمضان المبارك، وإن ليلة القدر يغفر فيها لقائمها، كما يُغفر لمن صام رمضان إيماناً واحتساباً، قال عليه الصلاة والسلام: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». وقد فرض الله عز وجل صيامه كفرضه للصلوات الخمس والزكاة وحج البيت، ركناً من أركان الإسلام.

وقال صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»، قال النووي: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته.

وفي حديث جامع لفضائل هذا الشهر المبارك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاكم رمضان شهرٌ مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تُفتَّحُ فيه أبواب السماء، وتغلَّقُ فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم». ووجه هذا الحرمان: أن أسباب المغفرة في هذا الشهر كثيرة عظيمة، فمن فاتته المغفرة فيه كان محروماً غاية الحرمان.

فإن الله جعل رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون، كما قال الحسن البصري.

ويقول ابن الجوزي: إخواني، هذا شهر ليس مثله في سائر الشهور، ولا فضلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور، الذنب فيه مغفور، والسعي فيه مشكور، والمؤمن فيه محبور، والشيطان مبعد مثبور، والوزر والإثم فيه مهجور، وقلب المؤمن بذكر الله معمور. فهذه خصائص الشهر الذي على قدره كان اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فيه، وتبعهم في هذا النهج التابعون لهم بإحسان من العلماء والصالحين.

فمن وفقه الله لصيام يومه وقيام ليله وإقامة صلاته وحفظ جوارحه فقد أدرك الخير وفاز بجائزة الرب، ويا لها من جائزة.

Email