من شروط تماسك الدول والمجتمعات

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرف مؤسسات الإعلام المملوكة للدولة في تونس أزمات كبرى تهدد استمرارها، ولم تفرق الأزمة بين مؤسسات الصحافة المكتوبة ومؤسسات قطاع الإذاعة والتلفزيون وحتى وكالة الأنباء.

ويجمع القطاع العام في المجال الصحفي في تونس مؤسسات مملوكة بالكامل للدولة ومؤسسات أخرى تُعرف بالمؤسسات المصادرة، التي كانت قبل 14 يناير 2023 على ذمة خواص قريبين من نظام حُكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهي مؤسسات وقعت مصادرتها ودخلت مؤقتاً في القطاع العام تمهيداً للتفويت فيها مجدداً بالبيع، ولكن العملية طالت بشكل أنهك كاهل هذه المؤسسات وأدخلها في دوامة الأزمة الاقتصادية التي تُنبئ بزوالها، ويُخشى أن هذا يدخل في سياسة قصدية.

وسواء تعلق الأمر بمؤسسات الإعلام المملوكة للدولة أو تلك المؤسسات الموجودة وقتياً في ملك الدولة، فإن القاسم المشترك بينها هو الأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة، وهي أزمة يرى فيها أهل القطاع العام الصحفي أنها أزمة مفتعلة، الغاية منها الإنهاء الفعلي للقطاع العام الصحفي، رغم التطمينات الصادرة عن الرئيس التونسي قيس سعيد خلال زيارته أخيراً مقر مؤسسة «لابراس» وهي إحدى أعرق الصحف الورقية في تونس.

وترجع هذه الرغبة الجامحة في القضاء على القطاع العام الصحفي في تونس إلى عهد «الترويكا» الذي قادته حركة النهضة الإخوانية منذ 2011.

ومنذ وقوف الحركة الإخوانية على صعوبة واستحالة احتواء القطاع العام الصحفي عمدت إلى التضييق عليها مادياً بشكل أضعف بشكل كبير قدرتها التنافسية، وذلك سواء تعلق الأمر بالصحافة المكتوبة أو بمؤسسات الإذاعة والتلفزيون.

وغاب عن الحركة الإخوانية الدور المهم الذي اضطلع ويضطلع به القطاع العام طوال مراحل بناء الدولة الوطنية، ثم دوره المحوري في مجالي التنمية وتركيز مؤسسات الدولة، وانطلقت في حملات مسعورة ضد القطاع العام وضد الصحفيين منذ بداية 2012؛ بسبب أنها ترفض كل ما يخرج عن سيطرتها ويقف عائقاً دونها والتمكن التام من مفاصل الدولة والمجتمع.

وقد كانت حجتها في سياسة القضاء على القطاع العام الصحفي أن هذا القطاع أدى أدواراً «سلبية» في العهود السابقة، وأنه حان الوقت كي ترفع الدولة يدها عن الإعلام وتمنع عنه التمويل العمومي تماهياً في تقديرها مع الديمقراطيات الغربية.

ومن نوافل القول التأكيد على أن هذه الحجة واهية وفي تناقض تام مع حقيقة ما يجري في الكثير من هذه الديمقراطيات على غرار فرنسا وبريطانيا تحديداً.

من البديهيات أيضاً أن الإعلام المملوك للدولة يضطلع بدور أساسي ومحوري في كل مراحل بناء الدول الوطنية وتركيز مؤسساتها، وفي المساهمة في المجهود التنموي، وهو القاطرة الضامنة لممارسة العمل الصحفي المهني والمسؤول في إطار احترام أخلاقيات المهنة الصحفية.

إن دورالإعلام المملوك للدولة أساسي كذلك في بناء الدولة الديمقراطية، وفي الوعي بضرورة تجذير مؤسساتها وضمان ديمومتها، وفي نشر ثقافة دولة القانون والمؤسسات، وأيضاً ثقافة مجتمع القانون.

دور الإعلام كذلك محوري في الدربة على الوعي النقدي والرقابي المسؤول، وفي القبول بالاختلاف والرأي والرأي الآخر في إطار عقد اجتماعي يضمن التوازن بين حقوق الأفراد وحقوق المجتمعات والدول.

إن استهداف الحركات الإخوانية للإعلام المملوك للدولة ليس فقط ردة فعل على فشلها في السيطرة عليه، وإنما هو ينطلق من فكرة خبيثة تتمثل في القضاء على أهم أداة فعالة تمتلكها الدولة والمجموعة الوطنية من أجل ترسيخ الوعي بمحورية الدولة الوطنية التي لا تؤمن بها أصلاً الحركات الإخوانية، وتسعى بكل إمكاناتها إلى تقويضها بالكامل.

وفي تونس، ورغم أن الحراك التصحيحي لـ25 يوليو 2021 أخرج حركة النهضة الإخوانية من الحُكم، إلا أن حجم الاختراقات تجاه الإدارة والدولة الذي قامت به طوال عشرية حكمها يمكنها وإلى الآن من مواصلة سياسة القضاء على القطاع العام الصحفي، ويجدر التنبيه في هذا الخصوص إلى خطورة الانخراط في هذه السياسات بصورة سلبية أو فعلية، لأن ذلك من شأنه أن يحرم الدولة والمجتمع من آلية مناعة أثبتت جدواها وفاعليتها ضد كل محاولات ضرب سيادة الدولة الوطنية واستقرار المجتمع.

Email