سيئول في مأزق بسبب ضغوط الحليف الأمريكي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل من نافلة القول أن التنافس المحموم والتوترات المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية جيوسياسياً واقتصادياً وتجارياً وتكنولوجياً ألقت بظلال ثقيلة على كوريا الجنوبية، جارة الأولى وحليفة الثانية، مما تسبب لها في مأزق عبّر عنه «مون تشونغ إن» المستشار الخاص للرئيس الكوري الجنوبي السابق «مون جاي إن» للشؤون الخارجية والأمن القومي بقوله، إن ما يجري بين بكين وواشنطن يذكرنا بالحرب الباردة القديمة، ويجعل كوريا الجنوبية في وضع صعب للغاية وتواجه معضلة اختيار خطيرة في هذه المواجهة الثنائية.

جاء ذلك في كلمة ألقاها المسؤول الكوري الجنوبي السابق في بكين أثناء مشاركته في أعمال منتدى شانغشان، وهو منتدى تأسس عام 2006 ويعقد سنوياً كمنصة حوار حول قضيتي الأمن والدفاع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بشكل خاص وكافة القضايا العالمية بشكل عام، بحضور مسؤولين من مختلف الدول والمنظمات العالمية والإقليمية.

وغني عن البيان أن واشنطن اعتمدت سياسة دفع حليفتها الكورية إلى الانخراط في استراتيجياتها الخاصة الهادفة إلى تطويق الصين، في الوقت الذي لا تستطيع فيه سيئول (رغم تحالفاتها الأمريكية) الاستجابة لذلك والإقدام على استعداء الصين على الساحة الجيوـ اقتصادية صراحة، لأن الأخيرة هي الشريك التجاري الأكبر والأهم لكوريا الجنوبية. ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى أن الصين تمثل 25 بالمئة من إجمالي حجم تجارة كوريا الجنوبية مع الخارج، وهي أكبر سوق للصادرات الكورية الجنوبية (وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2015 مثلاً إلى نحو 400 مليار دولار).

من ناحية أخرى، ضغطت واشنطن على سيئول باتجاه تعميق التعاون التكنولوجي الثنائي على حساب الصين، لاسيما فيما يتعلق بأشباه المواصلات (الرقائق الإلكترونية) التي رغبت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يستثمر مصنعوها الكوريون في الولايات المتحدة بدلاً من الصين، متجاهلة حقيقة أن هؤلاء المصنعين يصدرون أكثر من 40 بالمئة من منتجاتهم إلى البر الصيني، ونحو 20 بالمئة منها إلى هونغ كونغ، ناهيك عن حقيقة أخرى هي أن ما يقارب الستين بالمئة من المواد المهمة الداخلة في صناعة الرقائق الإلكترونية يستوردها المصنعون الكوريون من الصين.

ومن الأمثلة الأخرى لتوريط سيئول ضد بكين من قبل الإدارة الأمريكية الحالية ما يتعلق بالقيم.

وهذه ناحية أشار إليها «مون تشونغ إن» في كلمته أمام منتدى شانغشان حينما قال- ما معناه - إن الولايات المتحدة الأمريكية، في طرحها لفكرة قيام تحالف ليبرالي لمحاربة الدول غير الليبرالية مثل الصين وروسيا، طالبت إدارة الرئيس الكوري الجنوبي الحالي «يون سوك يول» بأن ينضم إلى التحالف المذكور ويدافع عن فكرته وأهدافه، فعمد الأخير إلى إعطاء انطباع بأن بلاده انضمت فعلاً إلى التحالف الليبرالي من خلال التأكيد على قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بشكل عام، دون الغمز من قناة أي دولة تخالف تلك القيم، متحاشياً بذلك تدهور علاقات بلاده بالصين المرتبطتين باتفاقية للتجارة الحرة منذ عام 2015.

بقي أن نشير إلى موضوع ذي صلة أثاره المسؤول الكوري السابق في كلمته ووجد صدى طيباً في الأوساط الصينية، وهو استخدام مصطلح «المحيطان الهندي والهادئ» كبديل لمصطلح «آسيا والباسيفيكي» في الأدبيات العسكرية والجيوسياسية، إذ عبّر «مون تشونغ إن» عن استغرابه من تداول المصطلح الأول أينما ولى المرء وجهه سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة أو اليابان أو كوريا الجنوبية أو جنوب شرق آسيا، مشيراً إلى أن هذا المصطلح غريب ومرتبط بالاستراتيجيات البحرية الأمريكية التقليدية ويلغي وجود الصين وروسيا، بل ويخرج آسيا من الخرائط الجيوسياسية والجغرافية (على حد قوله)، وذلك على النقيض من المصطلح الثاني (آسيا والباسيفيكي) الناشئ من فكرة الجمع بين القارات والمحيطات من أجل السلام والتعايش السلمي في العالم، والذي تندرج فيه الصين وروسيا ضمناً باعتبارهما قوتين آسيويتين قاريتين بدليل تمتعهما بعضوية منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الباسيفيكي (APEC).

كما أن الرجل لم يتردد في وصف سيادة المصطلح الأول وتراجع استخدام المصطلح البديل بأنه نذير شؤم للسلام والأمن والاستقرار في العالم، واصفاً هذا التطور وما ذكرناه آنفاً من ضغوطات أمريكية على بلاده للتكتل في مواجهة الصين واستعدائها بالأمر المقلق والمفضي إلى معضلات أمنية ودبلوماسية واقتصادية كبيرة لكوريا الجنوبية ومحيطها الإقليمي.

كل هذا كان بمثابة دافع قوي للمسؤول الكوري الجنوبي السابق ليطرح بعض الحلول ومنها: إعادة تقييم معنى وانعكاسات المصطلحين المذكورين، وإعادة تنشيط التعاون الأمني مع تعزيز الدبلوماسية الوقائية، ونبذ الإقليمية المغلقة المتعارضة مع المبادئ الأساسية للنظام التجاري الدولي الليبرالي الذي أرسته واشنطن بنفسها، لصالح الإقليمية المفتوحة المتجلية في منظمة APEC والاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ CPTPP، إحياء نظام تعددية العالم واحترام السياقات الثقافية والحضارية المختلفة للشعوب والمجتمعات.

Email