شخصيات تحت المجهر

محمد أحمد الرويح.. أول من أسس مكتبة تجارية بالكويت

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو جلياً أن المكتبات التجارية في زمننا وحياتنا الراهنة، التي طغت عليها الثقافة الرقمية وأجهزة الإنترنت، لم تعد تمارس الدور المؤثر الذي لعبته في حياة الأجيال السابقة، كمصدر للثقافة والمعلومات، أو كمعين لهواة القراءة والمعرفة، وعاشقي الارتقاء بالنفس والعقل.

ومع هذا التراجع، باتت المقولة الخالدة «أعز مكان في الدنيا سرج سابح، وخير جليس في الزمان كتاب»، لشيخ شعراء العربية أبي الطيب المتنبي، في طي النسيان. تقول المصادر المتوفرة إن أول مكتبة تجارية في الخليج، ظهرت بمدينة المحرق البحرينية، في دكان بالقرب من سوقها التجاري، على يد صاحبها المربي عبد العزيز عيسى الجامع، وذلك في أوائل القرن العشرين، طبقاً لما كتبه الباحث البحريني بشار الحادي، الذي أخبرنا أيضاً أن الجامع بدأ عمله ببيع المخطوطات، وما تيسر من الكتب القليلة المتوفرة في البحرين، نظراً لصعوبة استيراد المؤلفات آنذاك من مطابعها في بومباي وبغداد والبصرة والقاهرة والحجاز.

وتعد الكويت ثانية دول الخليج، من حيث تأسيس المكتبات التجارية، حيث إن مكتبتها التجارية الأولى ممثلة في «المكتبة الوطنية» (كانت تعرف أيضاً عند العامة باسم «مكتبة الرويح»)، ظهرت سنة 1920، على يد الحاج محمد أحمد الرويـّــح، لكنها كانت وقتذاك عبارة عن دكان صغير، لا يحتوي إلا على كتب قليلة، وظلت كذلك حتى عام 1928، حينما قام صاحبها بنقلها إلى مكان أرحب، وتزويدها بكتب متنوعة في شتى المعارف، إضافة إلى الصحف والمجلات المطبوعة في الخارج، ولهذا يعتبر بعض مؤرخي الكويت عام 1928، هو التاريخ الحقيقي لتأسيس أول مكتبة تجارية بالكويت، بينما يرى البعض الآخر أن التاريخ الفعلي هو 1923، ويزعم البعض الثالث أن هناك مكتبات سبقت مكتبة الرويح، مثل «مكتبة الدرع» لصاحبها عبد المحسن الدرع، و«مكتبة الطلبة» لصاحبها عبد الرحمن الخرجي.

ولد محمد أحمد الرويح بالحي الشرقي بمنطقة الدبوس في الكويت سنة 1898 (وقيل في 1900 أو 1901)، ابناً لعائلة تنتمي إلى قبيلة البقوم، كانت قد هاجرت إلى الكويت قديماً من «تربة» بمنطقة حائل شمالي السعودية. والتحق في سن السادسة بمدرسة أحمد الفارسي، ثم التحق لمدة سنتين بمدرسة عبد الوهاب الحنيان. وعلى الرغم من شغفه بالعلم وولعه بإكمال تعليمه، إلا أن والده أخرجه من المدارس، ليعاونه في بقالته أمام مسجد السوق القديم.

وطبقاً لما ذكره الرويح شخصياً للمؤرخ سيف مرزوق الشملان، في حوار تلفزيوني بتاريخ 16/‏‏‏4/‏‏‏1988، فإن حكايته مع الكتب بدأت وهو في سن 13، حينما سمع من أحد رواد ديوانية عمه قصة «عنترة بن شداد»، حيث استهوته القصة، فأبدى للراوي رغبته في اقتناء الكتاب الذي يتضمن القصة، فوجهه الأخير إلى كتاب آخر يناسب عمره، بعنوان «القاضي والحرامي».

وهكذا ظل الصبي يبحث عن ذلك الكتاب دون جدوى، بسبب عدم انتشار محلات بيع الكتب في الكويت آنذاك، إلى أن مرّ ببقالة أبيه ذات يوم بائع جوال عدني، يدعى قاسم اليماني، المعروف أيضاً باسم الدرويش، وكان الرجل قادماً من العراق، في طريقه إلى البحرين، لبيع وشراء الكتب، فطلب منه الرويح قصة «القاضي والحرامي»، فوعده بإحضارها له من البحرين في طريق عودته إلى العراق. حصل صاحبنا على القصة المطلوبة، بعد أن دفع مقابلها مبلغ ثماني آنات (نصف روبية)، وقرأها بنهم.

في حواره المتلفز مع الشملان، أخبرنا الرويح عما حدث بعد ذلك، وملخصه أن نسيبه عبد الله الحنيان، الموظف في المعتمدية البريطانية، أخبره بوجود مكتبة في بومباي اسمها «مكتبة سرورتي»، تستطيع تزويده بكتب عربية بأسعار منخفضة، الأمر الذي شجعه على مخاطبة المكتبة الهندية، عبر رسالة كتبها على عجل بلغة ركيكة، وقال فيها «أبغي أشتري كتب من عندكم»، فوصلته أول دفعة كتب بالبريد مقابل 40 روبية.

حاول أن يبيع الكتب من خلال بقالة والده، فانزعج الأخير من تردد الطلبة وهواة القراءة على ولده ونقاشاتهم وصخبهم، وهو ما جعل الأب يخير الابن بين أمرين: الاستمرار في العمل معه دون بيع الكتب، أو بيع الكتب في محل مستقل، قائلاً له: «يا وليدي رمانتين باليد ما تصير».

اختار الرويح الأمر الثاني، وقام بعرض كتبه بادئ الأمر على الأرض في مدخل السوق الداخلي، وفي الوقت نفسه، عرض الكتب على المربي الشيخ عبد الوهاب العصفور وطلبة مدرسته، فساعده العصفور في البيع، بل زوده أيضاً بقائمة للكتب الرائجة، التي طلبها الرويح فوراً من الهند بمبلغ 400 روبية، لم يكن يملكها حينذاك، وهو ما جعله يقترض المبلغ من صديق والده، التاجر محمد بن حيدر، الذي لم يكتفِ بمساعدته، وإنما استأجر له أيضاً محلاً في مدخل السوق القديم بروبيتين (150 فلساً)، ليكون مقراً لمكتبته الأولى.. بعد مدة اكتشف الأب أنه أخطأ في حق ابنه، وأنه في حاجة ماسة له، فبعث من يطيب خاطره، ويطلب منه نقل مكتبته إلى مكان مجاور لبقالته في السوق الداخلي، كي يستعين به عند الحاجة.

في مقره الجديد، تعرف إلى جاره محمد السريـّـع، الذي كان دائم السفر إلى بغداد، فعرف منه أن بغداد غنية بالكتب والمكتبات، وأن بإمكانه مرافقة السريع إلى هناك في سفراته القادمة.

وبهذا قرر الرويح أن يتوقف عن طلب الكتب من الهند، بدءاً من عام 1929، كما توقف عن طلب الكتب من المكتبة الكمالية في المنامة، التي تعرف إليها من خلال قاسم اليماني، وتعامل معها لبعض الوقت، وراح بدلاً من ذلك يطلب حاجته من «المكتبة العربية في بغداد» لصاحبها الحاج نعمان الأعظمي، الذي ارتبط بصداقة وثيقة معه. لم يكتفِ الرويح بالسفر إلى بغداد، بل سافر أيضاً إلى البصرة مع عبد الله الغيث، في سفن جلب المياه. وفي البصرة، التقط لأول مرة في حياته صورة فوتوغرافية سنة 1931، كي يبعثها للنشر في مجلة «اللطائف المصرية»، بناء على طلبها.

وفي بغداد، لم يكتفِ بالتعامل مع الأعظمي وبن رجب، وإنما تعامل أيضاً مع مكتبة السيمر، التي عرفها مصادفة من خلال «محمود الحافظ»، وهو من أبناء بندر لنجة النجباء، وطلبة العلم الأذكياء، حيث تعرف إليه الرويح حينما كان ماراً بالكويت في طريقه إلى العراق والبحرين.

Email