الحرب العصية على التجاهل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب الأوكرانية، عرضت الدبلوماسية الصينية وثيقة لوقف الحرب ومعالجة الأزمة من جذورها. وتضمنت الوثيقة اثني عشر بنداً، عدّتها بكين شاملة ومتوازنة ووسطية تلبي مطالب المتحاربين، وتستجيب لاستحقاقات القوانين والشرعية الدولية، وتسكن المخاوف لاحتمال اللجوء للأسلحة النووية.

ومن بين العوامل التي نحسبها شجعت بكين على طرح مبادرتها، مرور عام على الحرب من دون أن يدعي أحد أطرافها أنها حسمت لمصلحته، واتضاح حجم الخسائر الفادحة المترتبة عليها والتي بدت قابلة للتفاقم والزيادة، سواء بشكل مباشر لدى الروس والأوكرانيين، أو بشكل غير مباشر بالنسبة لمتضررين كثيرين في أرجاء المعمورة. ولعل استشعار حساسية المتحاربين وسواهم لهذه الخسائر غير المتوقعة، فضلاً عن خلو الساحة الدولية من وساطات أطراف ثالثة، وانسحاب عواصم الوساطة النشطة واحدة تلو أخرى من المشهد، والتزام بكين موقفاً عدّته محايداً تجاه الأزمة والحرب.. لعل ذلك كله أنشأ قناعة لدى هذه الأخيرة بأن مداخلتها السلمية تقوم على أرض خصبة تؤهلها للقبول والإيناع.. كيف لا وهي التي سوف تساعد الجميع على النزول الآمن من رؤوس الأشجار التي اعتلوها؟

ولكن ما جرى عملياً، أن المعنيين بالمبادرة الصينية لم يرحبوا بها وفق منظور الصفقة الواحدة، فباستثناء شبه الإجماع على البند الخاص برفض أي استخدام للأسلحة الذرية، تفرقت مواقف الأقوام إزاء بقية البنود، حتى إنهم تعاملوا معها شأن العميان في وصف الفيل، إذ تعلق كل منهم بما يوافق مصالحه وحساباته، فالروس أعجبوا بالنص الذي يحث على مراعاة مخاوفهم الأمنية. ورأى الأمريكيون ومن ورائهم الأوروبيون أن الوثيقة تنصف مفهوم سيادة جميع الدول ومبادئ الأمم المتحدة، ولكنها لا تشير صراحة للطرف المعتدي، ولا تتحدث عن انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية.. ثم إن ردود الأفعال الغربية عامة أهالت ظلالاً قاتمة على المبادرة، حين شككت في نيات السياسة الصينية كونها «لم تؤيد الهجوم الروسي، ولكنها لم تنتقده علناً ولا ساندت العقوبات الغربية».

كأن الجهد الصيني لتسوية هذا الصراع، يمضي نحو الفشل والمصائر التي لحقت بالمبادرين الآخرين ومبادراتهم من قبل.. وإذا ما تأكد ذلك، وهو الأرجح، فسيعود المشهد الدولي السياسي والدبلوماسي إلى حالة الجمود.

ما يدعو للتشاؤم أيضاً، تعامد هذا المشهد الرسمي مع الضعف الملحوظ الذي يغلف الحراكات الشعبية المناهضة للحرب، ففي الأسابيع الأولى من العمليات العسكرية، شهدت الشوارع الأوروبية شيئاً من الاحتجاجات، وهي الظاهرة التي كادت تختفي وتأفل كلياً في الوقت الراهن كما أنها لم تكن جميعها خالصة لوجه الشعارات السلمية، وإنما ترتب معظمها على الشعور ببذخ الإنفاق الحكومي على الحرب دعماً للطرف الأوكراني.

هذا الغضب الشعبي المتشح بالحياء والهشاشة، إزاء حرب ضروس داخل البيت الأوروبي، لا يقارن بالاحتجاجات التي لازمت الحرب الفيتنامية، مثلاً، في سياق عالمي، ومن ذلك الديار الأمريكية. هذا على الرغم من الاعتقاد بأن النموذج الفيتنامي كان في حينه أقل تهديداً بالتعولم أو بشبح المواجهة النووية، وأقل تأثيراً في جيوب وبطون الكثيرين على ظهر الكوكب.

ربما لن يطول الوقت قبل أن تطوي بكين وثيقتها أو رؤيتها، وعندئذ سيعود الأفق الدولي الرسمي إلى الخواء من وسطاء ذوي مكانة وكلمة مسموعة تجاه هذه المعمعة. ونظراً لتوازي أو تقاطع هذا الوضع البائس مع انحسار ضغوط الرأي العام العالمي، وغياب فعالية التنظيم الدولي، ولا سيما الأمم المتحدة، بسبب أساليب اتخاذ القرار المعروفة، فإن استمرار صوت السلاح والتكاسر الميداني هو السيناريو المرشح للديمومة، إلى أن تخور قوى أحد الأطراف أو كلاهما، الأمر الذي يصعب تحديد أجل له.

ما يراودنا في هذا الخصوص أن فكرة الحروب، التي تم التأقلم معها وظلت مستعرة وشبه منسية سنوات كثيرة، لا تنطبق على المثل الأوكراني وفقاً لحيثيات الموقع وطبيعة الصراع ومكانة المنغمسين فيه والنتائج والأجندات المرتبطة بمصيره.. بمعنى أن العالم قد يصحو على وقع تحول فجائي شديد البغض، ما دامت التفاعلات الأوروبية سبق لها أن كانت مسؤولة عن حربين عالميتين!

 

*كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email