حالة عدم اليقين

ت + ت - الحجم الطبيعي

أظن أن أقرب صيغة يمكن أن نطلقها على الوضع العالمي بصفة عامة هي أنه يعيش في حالة عدم يقين مطلقة. وهى حالة يعتقد البعض أنها ربما تكون أسوأ من أية حالة أخرى.وقد يكون معظم الاقتصاد العالمي هو الضحية الأولى لهذه الحالة من عدم اليقين.

انظروا وتأملوا حالة القلق والهلع والرعب التي انتابت عدداً كبيراً من المتعاملين مع بعض البنوك في الولايات المتحدة وأوروبا وبعض دول العالم، وذلك في أعقاب انهيار بنك «سليكون فالي» الأمريكي ومعه بنك سيجنتشر» وبنوك صغيرة أخرى تتعامل في الأساس مع الشركات الناشئة في مجالات كثيرة أهمها ريادة الأعمال وأعقبها أزمة شديدة غي بنك «كريدي سويس» السويسري الذي هبطت أسهمه ما بين %20 إلى %30.

المودعون تسابقوا على سحب ودائعهم، فانهار بنك «سليكون فالي». صحيح أن الحكومة الأمريكية تعهدت بحماية وضمان أموال المودعين، لكن «كان السيف قد سبق العزل» وتدحرجت كرة عدم الثقة والخوف، فاندفع كثيرون لسحب الودائع، وعندما لم يجدوها حدث الانهيار. الأمر نفسه ينطبق على أحد البنوك السويسرية الذي يعاني أوضاعاً شديدة الصعوبة.

قد يقول قائل ولكن هذه الانهيارات حدثت بالأساس في بنك أو بنكين في أمريكا من بين آلاف البنوك، فلماذا يخاف بقية الناس في أنحاء العالم؟.

السؤال منطقي، لكن من يطرحه ينسى أن العالم لم يعد قرية صغيرة، أو حتى شقة صغيرة، فحسب، كما كان يقال قبل سنوات، بل صار أقرب إلى حجرة واحدة شديدة الصغر، كل من يعيش فيها يتأثر بما يحدث للآخر.

العولمة لها فوائد كثيرة للبشرية لكن لها أيضاً سلبيات كثيرة لأن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجيا صارت شديدة التشابك بحيث إن الكل يؤثر في الكل بطريقة أو بأخرى.

ونتيجة لهذا التشابك وبسبب انفجار ثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي وتطبيقات التكنولوجيا المختلفة، فإنه حينما تحدث مشكلة اقتصادية في الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة أو الصين أو مجموعة الاتحاد الأوروبى، فإن العالم بأكمله يتأثر بها. ونتذكر أن مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا قد حذرت في بداية هذا العام، وقبل أن ينهار بنك سيليكون فالي، من أن الاقتصاد العالمي سيكون في حالة أسوأ من التي كان عليها في العام الماضي، والسبب أن محركات الاقتصاد العالمي الثلاثة الكبرى وهى اقتصادات أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي تعاني من أوضاع صعبة خصوصاً التضخم، والذي يخشى البعض أن يتحول إلى ركود تضخمي.

نعود إلى مسألة «عدم اليقين» حيث إن انهيار البنك الأمريكي جعل عدداً كبيراً من المواطنين في أنحاء العالم يخشون أن يكون ذلك هو مصير ودائعهم في البنوك التي يستثمرون فيها أموالهم، ورغم أن ذلك غير صحيح إلى حد كبير، إلا أن من يطالع وسائل التواصل الاجتماعي سيدرك على الفور ما أقصده من حالة عدم اليقين.

هذه الحالة ليست وليدة انهيار بنك سيليكون فالي، ولكنها ناتجة عن تشابك وترابط وتزامن مجموعة من العوامل التي يمكن تلخيصها في التداعيات التي صاحبت وأعقبت ظهور وانتشار فيروس كورونا منذ بدايات عام ٢٠٢٠، ثم الأزمة الأوكرانية والصراع الضاري بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة وروسيا قبل عام من الآن، ثم الصراع الاقتصادي بين القوتين الأعظم الولايات المتحدة والصين.

هذه العوامل أدت إلى انخفاض الإنتاج،وتعطل سلاسل الإمدادات،وانفجار أزمة الديون العالمية،وكانت النتيجة هي ارتفاع أسعار كل شيء تقريباً خصوصاً السلع الأساسية مثل الطاقة والحبوب.

غالبية بلدان العالم عانت من هذه التداعيات بما فيها دول أوروبية كبرى لكن الضربة الكبرى كانت من نصيب عدد كبير من بلدان القارة الإفريقية والشرق الأوسط، خصوصاً الذين يستوردون أكثر مما يصدرون وينتجون أكثر مما يستهلكون. وبالتالي وبسبب نقص الإنتاج، فقد استيقظ العالم على أزمة تضخم عاتية جعلت أمريكا ترفع أسعار الفائدة من صفر في المائة إلى أكثر من %5 وهو الأمر الذي أثر على العالم بأكمله، لدرجة أن بعض عملات العالم فقدت %100 من قيمتها، وبالتالي فإن ملايين البشر وجدوا أنفسهم فجأة، وقد خسروا معظم ما كانوا يملكونه سواء قيمة عملاتهم أو زيادة الأسعار، وصار المستقبل أمامهم محفوفاً بالمخاطر. هذه الحالة من عدم اليقين لها تأثيرات نفسية عميقة على من أصيبوا بها، تجعلهم يعانون من القلق والارتياب والخوف مما هو آت، بل أن القادرين تأثروا أيضاً لأنهم يعيشون وسط محيط يعانى بصورة أو بأخرى من تحديات كثيرة. السؤال هل تستمر هذه الحالة طويلاً؟. الإجابة في علم الغيب وتتوقف على شروط موضوعية أهمها أن تنتهي أولاً أسباب التوتر وتهدأ الحروب والصراعات، وتلجأ الدول للتعاون والتفاوض والتصالح بدلاً من العداء والحروب، ويزيد الإنتاج ويقل الاستهلاك وبالتالي تنتهي حالة عدم اليقين وتحل بدلاً منها حالة الهدوء والاستقرار والأمل في الغد.

 

* رئيس تحرير صحيفة «الشروق» المصرية

Email