عندما تتعارض شرعية القانون مع إرادة المجتمعات

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتواصل الاحتجاجات الاجتماعية في فرنسا التي تقودها النقابات العمالية ضدّ مشروع إصلاح أنظمة التقاعد الذي تقدّمت به الحكومة برئاسة إليزابيث بورن لكسب تأييد البرلمان الفرنسي بغرفتيه له (الجمعية العامة ومجلس الشيوخ).

ويذكر أنّ أهمّ الإجراءات التي يتضمنها مشروع الإصلاح هي توحيد أنظمة التقاعد، وتأخير السنّ القانونية للتقاعد إلى 64 سنة.

وتفسّر الحكومة الفرنسية إقدامها على هذا الإصلاح، الذي فشلت حكومات عديدة سابقة في فرضه، بحرصها على المحافظة على التوازنات المالية للدولة بما يحمي حقوق المواطن في مواصلة التمتّع بفوائد التقاعد التشاركي.

وتحاول اليوم الأربعاء مختلف النقابات تنفيذ سلسلة إضرابات لتعطيل النشاط الاقتصادي وحشد الشارع الفرنسي استباقاً لعمل اللجنة المشتركة لمجلس الشيوخ والجمعية العامّة التي تسعى لإيجاد صيغة توافق حول النصّ النهائي لمشروع الإصلاح وعرضها مجدّداً على النواب الفرنسيين.

وقد أعلنت النقابات العمالية والأطراف السياسية المعارضة أنّ ضغوطاتها واحتجاجاتها تهدف فقط إلى حمل الحكومة على سحب مشروعها. وتعتبر النقابات وكذلك المعارضة السياسية أنّ مشروع الإصلاح الجديد هو في غير توقيته ولا يحقّق العدالة بين المواطنين.

وتحتاج الحكومة الفرنسية لتحقيق الأغلبية، أصوات اليمين الجمهوري الفرنسي أو أنّها ستكون مجبرة لاعتماد مشروع الإصلاح على استعمال حقّها الدستوري في تجاوز البرلمان وإقرار المشروع من جانب واحد، وهو سيناريو تسعى الحكومة الفرنسية والرئيس ايمانويل ماكرون إلى تفاديه نظراً لكلفته السياسية الباهظة، إذْ يعتبره المراقبون «سيناريو قانوني لكنّه غير ديمقراطي».

ويلقي المشروع الحكومي معارضة شديدة في البرلمان وفي الشارع الفرنسي فضلاً عن أنّ أكثر من 90 في المائة من العاملين يرفعون مبدأ الزيادة في السن القانونية للتقاعد، ولكن أهمّ المعارضين هم من أصحاب أنظمة التقاعد الخصوصية.

ويصاحب مشروع إصلاح أنظمة التقاعد في فرنسا جدل واسع حول عدد من المسائل السياسية والفكرية منها، تضارب الشرعية القانونية مع الشرعية المجتمعية، الشيء الذي أثار مجدّداً تساؤلات جدّية حول النظام السياسي التمثيلي الذي أصبح القبول به في فرنسا والمجتمعات الغربية عموماً مهزوزاً وضعيفاً، والشواهد على التصادم بين شرعية القانون والشرعية المجتمعية كثيرة في هذه المجتمعات، سواء كان ذلك في أوروبا أو في أمريكا.

ومن المسائل الأخرى الجدلية التي أثارها مشروع إصلاح أنظمة التقاعد، والتي بدأت تشغل الفاعلين في المشهد السياسي والفكري، مسألة تتعلّق بطغيان حقوق الفئات على حساب المصلحة المجتمعية المشتركة.

وتجد هذه الحقوق أساسها القانوني والفكري في نظرية الحقوق المكتسبة من جهة وكذلك وبالأساس في المكانة المحورية التي يحتلها الفرد في المنظومة الليبرالية.

وقد ساعدت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي أثّرت بشكل واضح على الطابع المعيشي للمواطن في فرنسا والدول الغربية عموماً، على ترسيخ نمط وعي فردي وفئوي يقدّم مصلحته الخاصة على المصلحة المجتمعية المشتركة.

ونعتقد أنّ طغيان المصالح القطاعية والفئوية من شأنه أن يهدّد في العمق تماسك المجتمعات الغربية ويُضعف الدول ويهدّد مستقبلها وينذر بانفراط العقد الاجتماعي المؤسّس للدولة الليبرالية، لتصبح معه من المستحيل على أيّ جهة أو طرف ممارسة الحُكْم.

ويضاف هذا العامل إلى آخر بدأ نطاقه يتوسّع ووطأته تكبر على تماسك الدول والمجتمعات، وهو حقوق الأقلّيات الذي يشترك في الأساس النظري والسياسي مع «قداسة» ومحورية الفرد في المنظومة الليبرالية.

وغني عن القول إن هذه التطوّرات تؤكّد الحاجة الملحّة إلى ضرورة قيام المنظومة الليبرالية بمراجعات هامّة تأخذ في الاعتبار التوازن بين مصالح الأفراد والفئات والمصلحة العامة للمجتمعات بما يحفظ تماسكها واستمرارية الدول واستقرارها.

* كاتب تونسي

Email