التفاهات تتمدد في فراغنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أؤمن بأن هناك غزواً فكرياً، ولا أميل نحو فكرة تشديد الرقابة الأخلاقية على الشباب، كل ما في الأمر أننا نعيش في فراغ، وبحسب قوانين الفيزياء فإن شيئاً ما سيملأ هذا الفراغ إن تُرك فارغاً.

والأمر نفسه يحدث في انشغال البعض بتفاهات الأمور في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، بدلاً من تعلم ما يفيدهم منها، أو يقويهم ذهنياً وبدنياً، فهم لا يجدون في الأمور المفيدة ما يمتعهم طرحه، ولذلك، بدأ الحديث عن ضرورة إعادة النظر في الطريقة، التي تقدم بها مدارسنا الكتاب، والطريقة التي نربي بها أجيالنا بعد ثورة المعرفة والانفتاح الإعلامي، التي تتسارع وتيرته بشكل مذهل.

قبل أيام حاول مجلس الشيوخ في أوهايو الأمريكية إقرار مشروع قانون يمدد ساعات العمل لتلاميذ المدارس الثانوية، خلال السنة، في محاولة لإلهائهم عن بعض «تفاهات» عدم الاستخدام الصحيح لتطبيق «تيك توك» الأكثر انتشاراً بين الشباب.

حيث يتيح القانون الحالي للتلاميذ العمل بعد ساعات اليوم الدراسي من الساعة السابعة حتى التاسعة مساء، خلال فصل الصيف، غير أن المشروعين يحاولون فتح باب العمل طوال العام بدلاً من فصل الصيف، فهم يرون أن العمل قد يشغل الأجيال عن تطبيقات التواصل الاجتماعي، ليس بسبب ما قيل إن فيه ثغرة، لكنهم يرون أن هناك تأثيرات سلبية على الصحة العقلية.

الأرقام التي قرأتها نقلاً عن صحف عالمية تشير إلى أكثر التطبيقات استخداماً (تحميلاً) خلال عام 2021، كان بلا منازل تطبيق «تيك توك» بعدد 656 مليوناً، وتطبيق «إنستغرام» (545 مليوناً)، و«فيسبوك» (416 مليوناً)، و«واتس آب» (395 مليوناً)، ثم «تليجرام» (329 مليوناً) و«سناب شات» (327 مليوناً)، و«زووم» (300 مليون).

ولو تأملنا سر «تيك توك» فسنجده تطبيقاً سريعاً، بفيديوهات خاطفة، مليئة بالمرح والأنغام والتسلية، فالشباب (وربما البالغون مثلهم) صاروا أقل إقبالاً على المطولات، وهذا ما دفع تطبيقات أخرى إلى بث صيغ قصيرة على منصاتها مثل «يوتيوب» و«إنستغرام» و«سناب» وغيرها. صارت شهية الناس أقل نحو الجدية والملاسنات والتنظير والكلام الإنشائي.

وهذا يجرنا إلى عوامل مفضلة لدى الناس يمكن أن نقحمها في كل ما هو مفيد في نظامنا التعليمي، فلم لا يعاد النظر في الجرعات التعليمية، ورفع سقف الإبداع في ما يقدم من مواد في المناهج، وهذا لا يعني التخلي عن العمق، لكننا نتحدث عن قوالب جاذبة من المرح والتفاعل والتخلي عن «التلقين» والأستاذية في الطرح. الأجيال تريد ما يحمسها ويتفاعل معها، فكلما شعر الطالب بالملل تسللت يده نحو الشاشة الصغيرة بحثاً عن متعة سريعة.

قرأت قبل 10 سنوات دراسة عن تدني مدة تركيز الناس بعد انتشار وسائل التواصل، وأكاد أجزم لو أعيدت الدراسة فستكون الأرقام مهولة لصالح النفور من المطولات وتفضيل «زبدة» الحديث.

وهذا ما لم تدركه كثير من القنوات التلفزيونية، التي ما زالت تصر على الإسهاب في برامجها ومقدماتها «الممطوطة»، فيقدم لنا المحاور رأيه في عشر دقائق قبل أن ينتقل إلى ضيوفه وكأنه محور الكون، وينسى أنه هناك أشخاصاً مختصين في الاستوديو نريد أن نسمع آراءهم قبل أن يتحول مجرى الحوار نحو رأيه.

عندما نجد أنفسنا أمام هذه النوعية من البرامج حتماً سيشعر المرء بفراغ إعلامي يستدعي جودة محتوى تساير روح العصر قبل فوات الأوان، وأبلغ مثال على ذلك، كيف تألقت منصات البودكاست مثل «ثمانية» و«سقراط» و«بدون ورق» و«بودكاست مع نايلة» على كثير من القنوات الإخبارية والمنوعة بميزانياتها الهائلة.

نحن في عصر لم نعد نتحمل فيه الجامدين، الذين لا يراعون التغيرات، التي تطرأ علينا نحن معاشر البشر بشتى أعمارنا وفئاتنا.

خلاصة القول: إن تسلل عدد من التفاهات إلى مجتمعاتنا يعود إلى فراغ يعيشه البعض في المحتوى والإبداع في المؤسسات التقليدية، كالإعلامية والتعليمية والتربوية وغيرها، فمن الطبيعي أن يتشبث المرء بأي قشة تنتشله من هذا الفراغ.

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

Email