الطفلة الكبيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رأيتها رأي العين وكأنها تناجي القمر، «المحور الثالث وشاهد العيان على ولادة يوم جديد».

دار حديث أصم بيني وبين السيدة «ماريا»، جدال لا صوت ولا وجه له، حروب دامية اشتعلت بلا نيران أو مدافع، كأن كل أنواع الأسلحة تجمعت من دون حساب فجأة في ساحة معركة واحدة، لكنها معركة بلا سلاح. بين محور عينيها ورعشة شفتيها، بين خصلات شعرها الأبيض، ودمعها الجاري، تلك السيدة البسيطة رأيتها رأي العين وكأنها تناجي القمر، المحور الثالث وشاهد العيان على ولادة يوم جديد في حياتها، تناجيه بأن يعود بها إلى الوراء، أو أن يوقف الزمن في الساعة ذاتها، واليوم ذاته.

بدأ القطار يتوقف تدريجياً عند إحدى المدن لبضع دقائق، وفي تلك الأثناء أسندت ماريا أطرافها الناعمة على شرفة تلك المقطورة، بين فستان أبيض، وشعر أبيض مشقر أجعد متموج أهوج، يروي قصصاً متناقضة، يراقصها تارة، ويعانقها تارة أخرى، رغم أن تمرد وجهها ما زال يداعبها، وما إن ينحدر الدمع من عينيها حتى ينعطف عليها برفقٍ ليعانقها. ترفع رأسها عالياً حتى تغسل تلك الأمطار الدمع، الذي يكتسح عينيها على وقع النشيج. لم أر جمال عينين تغزوهما التجاعيد والدمع كجمال عينيها. في مثل هذا اليوم من كل عام تودع ذكرياتها لتستقبلها في اليوم ذاته من العام المقبل. ماريا أيتها الطفلة الكبيرة من تكونين؟

جلبة فوهة القطار تثير ضجيجاً، مشيرة إلى بداية انطلاقة جديدة نجهلها، ورحلة جديدة نجهل أيضاً منعطفاتها، ضجيج وهدوء في آن. صفارة الاستعداد مع الأدخنة المتصاعدة، ويعاكسها في الاتجاه الآخر نسيم بارد مع مزيج من الرذاذ المتناثر، الذي يختلط بدمع عينيها. تحرك القطار، أغلقت نافذتها، وانعطفت جانباً كالغصن عطفه هبوب نسيم، ومالت إلى الجانب الأيمن من النافذة. في تلك الأثناء بين أنفاس متصاعدة دخل مسن مبتسماً، يحمل في يده طبقاً، وضع عليه بعناية زهرة الأقحوان الذهبية، وفنجان قهوة، وسلة مليئة بالخبز الفرنسي الساخن، الذي يصلك عبق رائحة الفرن منه قبل أن يصرع الباب من خلاله، يمكننا أن نخمن من تكون ماريا ؟

قال: أدركت أنكم لم تطلبوا شيئاً منذ ليلة البارحة، فهل تقبلان مني هذا الفطور البسيط في إشراقة شمس يوم جميل، نظرت إليه ماريا وابتسمت وكأن هناك معرفة سابقة بينهما، أهلاً سيد ألبرت ما زلت كما أنت، حتى زهرة الأقحوان الذهبية لم تنسها. ابتسم ووضعها جانباً. وأنت سيدتي ما زلت جميلة كما أنت، كزهور الأقحوان الذهبية البيضاء تلك.

بين رشفة وأخرى وقعت عيناي على عينيها وكأنها نسيت وجودي. قالت: أحببت هدوءك رغم ذلك الضجيج، يمكنك مرافقتي في هذه الرحلة العام المقبل.

من غير تردد جلست بجانبها، واحتضنت يديها الفاترتين وقلت لها: سأرافقك، ولكن عليك أن تسردي لي من تكون «ماريا»، تلك الطفلة الكبيرة ؟

Email