الفارق والمارق!

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مسرحية مدرسة المشاغبين كان مرسي الزناتي الذي مثّل دوره الفنان سعيد صالح يبكي وهو يشتكي من طالب آخر أساء إليه، وحينما سأله المدير عمّا حدث قال: «ضربني بوشّو على إيدي» !

المتفرعنون كُثُر، وأسوأ أنواع «الفرعنة» فرعنة الأُمَم التي تملك الكثير من القوة التي تسمح لها باستغلال الآخرين وابتزازهم مادياً ونفسياً وروحياً، وفوق ذلك تُصوِّر رفض أي مجتمع الذوبان «القسري» في ما يريده الأقوى بأنه همجية ورفض للحضارة والتمدن.

وقد نجح الأقوى وهو في عالمنا الغرب الأبيض في وضع قوالب جاهزة للجميع: معنا، فتكون متحضراً إنسانياً منفتحاً على الآخر، أو ضدنا، فتكون رافضاً لأن تكون عنصراً فاعلاً وإيجابياً مع بقية البشرية، طبعاً البشرية المراد التفاعل والتناغم معها هي الغرب الأبيض لا غير ولو كان مجموعهم أقل من دولة واحدة كالصين أو الهند!

إنّ من لا يرى سوى تفوّق عِرْقه فقط لا يحق له أن يُحاضِر باسم البشرية، ولا أن يجيّش كل ما يملك من قوى ناعمة وغير ناعمة لترويج رؤاه فقط، ومحاولة فرض أخلاقياته اللاأخلاقية أصلاً، فكيف يُعقَل أن يتكلم عن التواضع مُتكبّر، وعن الحريّة مُتسلِّط، وعن المساواة عُنصري، وعن الأديان من لا دين له سوى المال، وعن المحبة من لا يرضى أن تُرسَم خريطة تكون فيها إفريقيا بالأعلى وأوروبا وأمريكا الشمالية بالأسفل رغم أنه في الكون المترامي لا نعرف أين أعلى الأرض من أسفلها!

شدتني بالسياق ذاته نقاط للمفكر الفرنسي الراحل رينيه جينو في كتابه (الشرق والغرب) وهو الأَخْبَرُ بعقلية قومه ونظرتهم للآخر، فهو يستغرب محاولات دول الشرق التقارب مع الغرب رغم أنّ الغرب هو من ابتعد، ويؤكد أنّ التقارب بين الشرق والغرب مَغنَمٌ للغرب فقط، وإذا كان الشرق سيستفيد شيئاً فليس من جنس ولا حجم الفائدة التي سيجنيها الغربيون ولا يعدلها في الأهمية، ومن هنا فليس إذن ثمّة ما يُبرِّر التنازل عن أي من الأمور الجوهرية، ويقصد بذلك تحديداً ما يخص الأديان والأخلاقيات والمثل التي كانت دوماً قاسماً مشتركاً بين شعوب الشرق.

المهووسون بالغرب يجب أن يعيدوا حساباتهم ويهدئوا من سرعة جريهم خلفه، فالحضارة جيّرها الغرب لنفسه ووضع لها قالباً لا يتلاءم إلا معه ومع من قصقص أجنحته ليبدو مثله تماماً ملغياً بذلك خصوصيات بقية الشعوب ومهمشاً هوياتها ومستهتراً بكينونانتها، فالفوقية مرتكز لا يستطيع الغرب الفكاك منه، والأفضلية أمر يسري في دمائه، وفي هذا يقول رينيه جينو:

«المفزع حقاً ولوع الغربيين بـ(التبشير) بأفكارهم ومذاهبهم، فرُوح الغَزْو تتخذ لديهم أقنعة (أخلاقية)، إذ يريدون باسم الحرية أن يَحمِلوا العالَم كلّه حَمْلاً على أن يحذو حذوهم»، وهذا الذي يقوله جينو هو الطرح الفرعوني ذاته الذي سخرت منه آيات الذكر الحكيم: «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ».

إنّ الغرب يمرق بشططه وهو يرفض أي تأثير حقيقي في التاريخ البشري لأي حضارة لم تخرج من بين أظهره، فالحضارات تبدأ باليونان ثم تَتبعها الرومانية ثم يغط العالم في سبات قرابة ثمانية قرون حتى يبدأ عصر النهضة الأوروبية، أما الحضارة الإسلامية المتألقة وقبلها حضارات بابل وآكاد وسومر وآشور والفينيقيين ومصر القديمة وحضارات الهند والصين فلا تُذْكَر إلا في مَعْرِض القصص المسلية أو الحِكَم القديمة التي تجعل الغربيين يهزون رؤوسهم مستغربين أنّ هناك شيئاً ما لدى غيرهم!

حينما نذكر هذا فهو ليس من رفض الآخر ولكن أمر لا بد من بيانه، فما لم تُعرَف المشكلة وتُحدَّد بوضوح وإلا فلا أمل بالحل، يقول جينو: «ليس إظهار الغرب على نقائصه وأخطائه وأوجه قصوره من باب المعاداة له، بل على العكس من ذلك، إذ إن هذه هي الطريقة الوحيدة لمداواة الألم الذي يُعانيه، والذي يمكن أن ينتهي به إلى الموت إذا لم يتعافَ قبل فوات الأوان».

إنّ الغرب في حاجة إلى أن يعرف أنه ليس كل البشرية بل جزء محدود منها، وأنه طالما تعامل مع غيره بمفهوم «الاحتواء» القسري كامتداد لنهجه الاستعماري فإنّ تقبل الآخر له لن يحدث، وأنه لا معنى لإزعاجنا بكلمة «المشاركة» وهو لا يمارسها، وليس من حقه الحديث عن الحريات وهو يسلب الآخر حريّة أن يكون مختلفاً وامتداداً طبيعياً لأجداده، كفى الغرب تنظيراً وادّعاءً، و قبل ذاك، كفاه مُرُوقاً!

* كاتب إماراتي

Email