على هامش الزلزال ونظرية المؤامرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينطوي مصطلحا المؤامرة والتآمر على معانٍ حميدة كالتشاور والتبصر وتبادل الآراء، إلا أنهما محشوان أيضاً بالمضامين السلبية ومنها فكرة إضمار الأذى والإيذاء، هذا ما نفهمه من المعجم، لكن اللغة الدارجة تقول إن هذه المضامين الأخيرة هي الأكثر تداولاً ورواجاً في أوساط الخاصة والعامة.

ظاهر الحال أن المعاني الإيجابية المحايدة للمصطلحين، تراجعت حتى كادت تأفل في معظم، إن لم يكن كل، اللغات السائدة، فهما لا يذكران الآن في أي مقام إلا وقد اقترنا بالتربص والدس والخبث والتأبط شرا. وإذا مددنا خطوط هذا الفهم إلى منتهاها، فسوف نصل إلى أن المؤامرة تعني التدبير أو الكيد أو إجراء الحسابات في سرية وخفاء، وإنها بهذا المضمون موجودة بين يدي كل أنماط التعامل الإنساني..

من مستوى الأفراد والأسر، الذين لا يعالجون كل شؤونهم وشجونهم على الملأ، صعوداً إلى مستوى الدول، التي لا تناقش مخططاتها وسياساتها الحساسة للحاضر أو المستقبل علناً في الأسواق أو الساحات العامة أو وسائل الإعلام!

إيجازاً وقفزاً على كثير من التفصيلات، فإنه من السذاجة الفكرية والسياسية بمكان أن يستبعد البعض ما يعرف بـ «نظرية المؤامرة»، ولا سيما عند معالجة العلاقات الدولية.

وعليه، يبدو أن أهل الذكر على صعيدي الفكر والفعل معذورون عموماً حين يلوكون هذه النظرية، كلما عنّ لهم أمر لا يعلمون له تفسيراً سهلاً انطلاقاً من المعارف والمعلومات المنشورة والفقه المعلوم بالخبرة والسوابق، وهم يقيناً معذورون أكثر عندما تراودهم النظرية ذاتها، بعد أن تغذيهم الأنباء السيارة أو الأجهزة الاستخبارية بدلائل وبيانات وبينات، تشعل الشكوك في احتمال الوجود الفعلي للمؤامرة بمفهومها السلبي.

في عهد قريب، عرف كوكبنا أجواء تبادل الاتهام حول مصدر تفشي وباء (كوفيد19). وقد سممت هذه الأجواء، الموشاة بنظرية المؤامرة، الآفاق الدولية ولا سيما علاقة القطبين الأمريكي والصيني.

وما حدث هو أن هذين الطرفين مالا بالتدريج إلى لهجة أقل حدة، ولعلهما تخليا عن هذه النظرية نسبياً، حين تبين لهما وللخلق أجمعين أن أضرار الوباء عابرة للمجتمعات والدول والأقاليم، ذلك لأن المنطق لا يقبل جدلاً فكرة أن يحيك طرف ما مؤامرة تفضي إلى تضرره كغيره أو أكثر من غيره.

على سبيل الاستطراد المفيد، لنا أن نلاحظ كيف أن التلاوم الدولي واسع النطاق، الذي تشغل نظرية المؤامرة موقعاً مركزياً في سياقاته، يجد أرضاً خصبة ومناخاً ملائماً في الأوقات التي تطل فيها أزمات قوية طارئة تحار العقول في إدراك منشأها ودرء مخاطرها.

حدث هذا مثلاً وما زال في إطار تناول أمراض كالإيدز وجنون البقر وإيبولا وجدري القرود، بل ونعاين راهناً وقوع هذه النظرية في قلب ميدان الجدل حول الحرب الروسية الأوكرانية، على اعتبار أنها عند البعض أحد تجليات «مؤامرة»، هدفها استدراج روسيا إلى معمعة تستنزف قواها، وتمنعها من استئناف الدور الذي كان لها في زمن القطبية الثنائية.

القصد أن الأزمات الطارئة الكبرى تفتح شهية الكثيرين لتصدير مصطلح المؤامرة، والدفع به إلى واجهة النقاش والتناظر. هذا ما نلمسه حرفياً في هذه الآونة، التي تشهد فيضاً من المداخلات المغموسة بالمصطلح، بحيثيات ظاهرة وباطنة، في غمرة مقاربة حدث الزلزال المؤلم في تركيا وسوريا.

وللإنصاف، كان الطبيعي والممكن والمتعارف عليه، تنسيب الحدث إلى أحوال الطبيعة، على غرار السوابق التاريخية، والاطمئنان إلى استعصاء التنبؤ بالزلازل وانعدام الإرادة البشرية في وقوعها.

بيد أن خروج الباحث الهولندي فرانك هوجربيتس بأفكاره، وادعائه الموثق بتغريدة منشورة بأنه استبق هذا الحدث بالتحذير منه قبل أيام معدودة من الكارثة، أدى إلى تحول فارق جداً في مسارات التفكير التقليدي، وأوقع أناساً كثيرين في شباك البحث عن مؤدى هذا الادعاء، والتساؤل عما إن كان وراء الأكمة شيء من التآمر؟

زاد طين العزف على هذا المنوال بحرا، سعار الاجتهادات التي ازدحمت بها وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط حول هذه الواقعة وإنما أيضاً حول أعمال يجري إعدادها في محافل ودوائر علمية، معروفة ومجهولة، من شأن بعضها التسبب في وقائع مماثلة أو كوارث أعظم تأثيراً على عالمنا جزئياً أو كلياً. وهنا اختلط حابل أهل العلم والدراية بنابل المنجمين والدجالين ومدعي الثقافة ومروجي الشائعات ورواة الأساطير والخرافات.

الشاهد أن حمأة الزلزال المروع، أفسحت مجالاً واسعاً لمفهوم المؤامرة، وجعلت منه بطل المشهد العالمي، وأضفت عليه قدرات جبارة، يلامس بعضها وربما يفوق، بقليل من الحق وكثير من الباطل، ما تبثه قصص وأفلام الخيال العلمي.

 

 

Email