المَلّاقون الشقر!

ت + ت - الحجم الطبيعي

لدينا في الإمارات مَثَلٌ يقول: «أخْيَر مِن أُمّك وحدة مَلّاقة»، والجملة ليست للخبر أو المعلومة ولكنها تهكمية بمعنى الاستحالة وصعوبة التحقّق، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُحْسِن امرأة غريبة للإنسان بطريقة أفضل من أمه ولا أن تخاف عليه وتهتم برعايته مثلها، وقِس على ذلك أموراً أخرى لا يمكن بحال أن يكون الأخوف على مجتمع هو الغريب عليه ومن له سابق عداوة معه!

ليس الموضوع رفضاً للآخر أو إساءة الظن بالجميع ممن ليسوا مِن «طينتنا»، وليس «تقوقعاً» كما يدّعي البعض ولم نُعرّف أنفسنا بأننا المنزّهون والمبرؤون من كل نقص، ولكن مرونتنا لها حدود، وتقبّلنا للآخر منضبط بإطار منظومة القيم والأخلاق التي تحكمنا، ومَدُّنا لأيدينا ترحيباً بالغير لا يعني أبداً انسلاخنا من هويتنا وكينونتنا، فنحن لسنا شعوباً أتت على هامش الدنيا لكي تُدْخِل نفسها في مزادات تبعيّة لشعوب أُخَر لمجرد أنها اخترعت أدوات تُسهّل حياة البشر ثم ضيّعت البشر أنفسهم!

«الملّاقون» الذين ابتلينا بهم هم مَن أفنوا أعمارهم و«أموالهم» تنقيباً في تراث أُمّتنا العربية والإسلامية من المستشرقين والمستعربين ومَن سار في فَلَكِهم ولمدة قرنين من الزمان، وكادوا أن يأتوا على كل ما كتبه أسلافنا حتى ذاك الذي ما زال مخطوطاً، ثم لم تخرج طروحاتهم إلا بكل ما يحاول الانتقاص من تاريخ أُمّتنا وتجريح رموزها والجرأة في عمل انتقاء «مؤدلج» للعديد من النصوص لاستخراج معاني تخدم ما يسعون إليه من تلفيق وتحوير!

العجيب أن هؤلاء «الملّاقين» ضربوا صفحاً عن قامات عظيمة فلم يذكروها إلا في معرض القدح اعتماداً على كتب ساقطة لشعوبيين أو طائفيين كأغاني الأصبهاني ومروج الذهب للمسعودي وأمثالها، فهم لا يذكرون عدل عمر أو شجاعة خالد أو حكمة معاوية أو عقلية الوليد بن عبدالملك أو سياسة الرشيد ودبلوماسية المهدي، لا يهتمون بفقه مالك ولا تأصيل الشافعي ولا مرويات أحمد، لا يلتفتون لنسف ابن تيمية لأسس فلسفة أرسطو ولا عبقرية الشاطبي في فقه المقاصد، لا يرون اختراعات ابن الجزري وطب الزهراوي وكحالة ابن أسلم الغافقي ومنجزات أبناء موسى بن شاكر!

كل ذلك وأمثاله مما تحفل بها الكتب التي يمرون عليها مرور الأعمى لا يهمهم، لكنهم يسوّقون لنا ما يعلمون يقيناً أن تسويقه يُمثِّل زرع خلايا سرطانية تفتك بالجسد فتكاً ذريعاً، لكن الجسد هنا هو فكر الأمة وعقيدتها وخصوصيتها، ولأنهم يعلمون يقيناً أن لا أحد سيستمع إليهم ولن يلتفت للنطيحة والمتردية التي يروّجونها فقد قاموا باختلاق «سُلَّم» نفسي، لا يسمح بتسويق هذه الشخصيات الساقطة فقط وإنما بخلق حالة ضغط نفسي لمن يرفضها!

تم تصوير هذه الشخصيات بأنها أشبه برموز عصر التنوير والنهضة في أوروبا، وبأنهم جوبهوا بالاضطهاد والرفض بل والقتل من «المؤسسة الدينية» كما حدث لمفكري أوروبا في صراعهم المرير مع الكنيسة، ولم يحدث ذلك إلا لأنها كانت تُعلي من شأن الفكر في مواجهة الخرافة، والمنطق في معارضة التسليم الأعمى، والعقل في ندّيته مع النقل، وتباكوا على العِلم الـمُستباح والفكر الـمُحارَب بسبب رموز التخلف والرجعية والظلام!

هذه الشخصيات والفرق التي يُمجدها الغرب حالياً وأتباعه لا تعدو أن تكون فرقة باطنية أو شخصاً زائغ العقيدة، فيحتفون بإخوان الصفا، تلك الفرقة التي كتبت 52 رسالة جمعت فيها من الزندقة ما لم يجمعه أحد قبلهم، من تصوير العقل الفعّال هو من خلقه الله تعالى ثم ترك له المجال ليخلق الأكوان والكائنات نيابة عنه، وقالوا ببشرية الكتب المقدسة وبأن القرآن قول بشر وأن النبوة مكتسبة وأن محمداً، صلى الله عليه وسلم، ليس بخاتم الأنبياء، بل قالوا إن الفيلسوف أعلى رُتبة من النبي، لذا لا تستغرب عندما يقولون «ديمقريطس عليه السلام»!

يحتفون بالحلاج الذي أجمع علماء عصره على كفره، وديوانه المنشور ينضح كفراً وزندقة، بل ادّعى الألوهية وكان يخاطب تلاميذه ويقول: «أنت آدم، وأنت نوح، وأنت محمد»، وقال في كتابه الطواسين: «ما زِلتُ أبداً بالحقِّ حقًّا، فصاحبيَّا وأستاذيَّا إبليسُ وفِرعونُ. وإبليسُ هُدِّد بالنارِ وما رجَع عن دَعواه، وفِرعونُ أُغرِقَ في اليمِّ وما رجَع عن دَعواهُ ولم يُقِرَّ بالواسطةِ ألبتَّةَ» !

السلسلة طويلة، تضم ابن الفارض وابن عربي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي، وهي أسماء قُدِّمَت وكأنها النموذج الصحيح للإسلام وهي أبعد ما تكون عنه، وبأنها علامات فارقة في عالم الفكر والعلم، وأنا أتحدى كل «الملّاقين» الشقر وأتباعهم بأن يأتونا بمخترع واحد فقط لهؤلاء، ومعهم الوقت حتى يوم القيامة!

Email