شباب يميل إلى كتابة تاريخه

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليست الحكمة والمنطق فقط توجبان القيام بمثل هذا الفعل النبيل، بل من الواجب والوفاء والحب، أن يُكتب التاريخ بأيدي أبناء الوطن، ليكتبوه كما يريدونه أن يكون، وكما ينبغي له أن يُكتب. وهذا هو الأصح والأسلم والأفضل على الإطلاق. ولا يتركونه لأيدي المستشرقين والمستعمرين أو من في حكم المستأجرين والمغرضين، أن يكتبوه؛ أولئك الذين يكتبون تواريخ الأمم التي يستعمرونها، طبقاً لما تمليه عليهم مصالحهم وتحتاجه بلدانهم في الزمن الراهن، ليطالوا بذلك حتى المستقبل أيضاً وذلك (لغاية في نفس يعقوب) وأكثر؛ فهؤلاء يصعب الوثوق بهم. فما هو ثابت حتى اليوم أن الروايات التي ترد على ألسنة الآخر -المستعمِر - خاصة عند كتابته لتاريخ الشعوب التي استعمَرها، غالباً ما تكون روايات كاذبة ومضللة وناقصة، بل هي أقرب إلى التلفيق السافر، وأبعد ما تكون عن الواقع والحقيقة؛ فوقوع الأحداث غالباً ما يردُ على غير الصورة التي وقعت بها. وإن كان بعض تلك الأحداث قد وقع فعلياً، فهي لا تدون كما وقعت بل تأتي بالصورة التي يريدها هو، وعلى غير الحال التي جرت فيها تلك الوقائع والأحداث. ثمة تحريف دائماً ما يقرأه المرء ما بين السطور؛ فهنالك أسماء تكون غير الأسماء، وكنايات وألقاب تطلق على الناس خلافاً للكنايات والألقاب الحقيقية التي كانوا يحملونها. 

حدث مثل هذا في الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي، وفي ليبيا إبان الاستعمار الإيطالي، وحدث في غير بلد أفريقيّ. فحيثما مر المستعمِر كان الخراب والتشويه. فكل الأماكن التي هيمن عليها الاستعمار الأجنبي في العالم، بصرف النظر عن حجمها صغيرة كانت أو كبيرة، غنيّة أم فقيرة، قام بتشويه تاريخها، وضرب ثقافتها، ونال من هويتها الوطنية، وتركها تتقلب في مهاد الشك والحيرة والقلق لمراحل زمنية طويلة، حيث تمضي مستقبل أجيالها - بدلا من البناء والتنمية - تقضيه في السعي الحثيث لتصحيح ما جرى تزييفه من تاريخها، وتنقيحه من الشوائب، وإعادة الاعتبار إلى ثقافتها الأصيلة، واستجلاء هويتها الوطنية براقة كما كانت.

في الفترة القصيرة الماضية توافرتُ على وجبة معرفية معتبرة؛ مجموعة كتب محلية، صدرت حديثاً، تتحدث في موضوعات شتى؛ بينها السياسة والعلاقات البينية بين الدول التي تضع أول ما تضع اللبنات الأولى للشراكات الكبرى في المستقبل، في جوانب الحياة لمختلفة. حمل الكتاب عنوان (علاقات إمارة أبوظبي السياسية مع جاراتها) تجلّت فيه الدقة إلى جانب الحكمة. تأليف موزة عويص الدرعي.

وبينها الاقتصاد بما هو بنية تحتية مع التركيز على أيقونات لافتة ومهمة من حيث أدوارها كالجسور والمطارات والموانئ وما ترمز إليه في بعدها التاريخي الماضي والقادم، إضافة إلى إدارة الموارد والتنمية الشاملة التي تنتهي بالإنسان ومستوى معيشته، وأحواله الأخرى من تعليم وثقافة وصحة، وذلك بأسلوب آسر ومعالجة فيها من الحميمية للمكان الكثير الضافي. حمل الكتاب عنوان ( في تطور البنية التحتية لأبوظبي). كتبته فاطمة مسعود المنصوري. 

وبينها تاريخ الأمكنة - المكان وما له من تأثير في الإنسان الذي عاش فيه وحوله، ليس بصفته نُزلاً - مسكناً له جوار من الجهات الأربع، وله ملامح هندسية معمارية تحدده، يُكسبها الزمن بتقادمه عليها فرادة لافتة تصير ميزة. أو بصفته مأوىً له مداخل لضوء الشمس وأخرى لدخول الهواء بقدر. إنما المكان بصفته بقعة محددة من الأرض فيه قدر من الطمأنينة، يترعرع فيها الإنسان ويمارس أساليب عيشه التي تشكل نمط حياته، ممتلكاً أدوات انتاجه الخاصة التي، وإن بدت تقليدية في وقتها، تصبح بعد فترة من الزمن، متميزة.

ومعلوم أن العمل أياً كان نوعه يفضي بصاحبه إلى علاقات اقتصادية وثقافة بعينها لها ملامحها التي تُعرف بها؛ فالبدوي راعي الإبل أو السارح بالغنم، والفلاح ـ البيدار - الذي يتعامل مع حراثة الأرض وزراعتها وجني ثمارها، أو صائد الأسماك في البحر، والغواص الباحث في ”الهيرات“ عن المحار في اليم. كل هؤلاء لهم ثقافتهم الخاصة بهم، منبعها مجالات أعمالهم اليومية، وطبيعتها، التي خلف تراكمها في أذهانهم ونفوسهم عبر الحقب التاريخية، ثقافة ثرّة شكلت هويتهم الوطنية؛ فإذا ما حُرموا من ممارسة تلك الأعمال اليومية التي اعتادوا عليها، فقدوا ثقافتهم وروافدها المغذِّية، وفقدوا معها بهجة الحياة، ليصل بهم الحال إلى عدم القدرة على الاستمرار في حياة غير التي خبروها، وسببها ثقافة غير التي ترسّخت في ذواكرهم وحفظوها، وكانت بالنسبة لهم إحدى الحوافز الرئيسية لمواجهتهم تحديات الحياة على اختلاف ضراوتها. فكيف إذا كان يعيش في مكان كهذا، شاعر، هو بالنسبة لقبيلته وأماكنها، بمثابة مؤسسة إعلامية مدرعة، تحدثك عن همم الرجال وصنائعهم، وتمجد الأرض وتستدعي الاوابد، وتتنبأ بالمطر وتحدد مطالع النجوم. هذه المشاعر الجياشة انتابتني وأنا أقرأ كتاب حمل عنوان (ديوان العميمي: الشاعر حمد حارب راشد بن راشد). كتبته موزة مطر العميمي. 

وبعد؛ يفرح المرء عندما يلمس لدى بعض شباب اليوم ميلاً إلى كتابة التاريخ واستدعائه ليس بصفته ذاكرة اطارية ترتبط بجماعة ومكان فقط، إنما أكثر من ذلك؛ وصولاً إلى تفحّص وجهات النظر وإيجاد معنى لها جدير بالأسلاف. وهذا هو الفارق بينهما. 

Email