شخصيات تحت المجهر

مسلم البرازي.. شاعر الأغاني الوطنية السعودية الأولى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الذين عاصروا الإعلام السعودي في حقبة الستينيات من القرن العشرين لا بد وأنهم سمعوا باسم مسلم البرازي كاتباً لكلمات أشهر الأعمال التي تغنّت بالمملكة العربية السعودية ومدنها وملوكها.

كتب البرازي العديد من النصوص، التي قام الملحن السوري محسن محمد بتلحين معظمها، وبهذا خلّد الرجل اسمه في تاريخ السعودية بوصفه واحداً من العرب المخلصين الذين انحازوا لها في زمن عربي عصيب، وبذل كل ما في وسعه لتسخير قلمه وأدبه وشعره في سبيل إبراز صورة النهضة المباركة في البلاد السعودية وحكمة قادتها.

ولد مسلم صبري البرازي بمدينة دمشق سنة 1934 ابناً لأسرة عريقة من أكراد سوريا، هي أسرة البرازي. لم تقدم العائلة البرازية لسوريا القادة العسكريين فحسب، وإنما قدمت أيضاً شخصيات سياسية بارزة، لعل أشهرها المحامي والأكاديمي الدكتور محسن البرازي، الذي تولى رئاسة الحكومة السورية في عام 1949 في عهد الرئيس حسني الزعيم.

وبالنسبة لأصل التسمية (البرازي بفتح الباء)، قيل لأنهم كانوا الأبرز ضمن القبائل التي استجابت لصلاح الدين الأيوبي للقتال معه ضد الصليبيين.

في عام 1948، حينما كان عمر مسلم البرازي لا يزيد على 15 عاماً، دفعه حسه الوطني لترك دراسته الإعدادية بإحدى مدارس دمشق من أجل الانضمام إلى جيش الإنقاذ، الذي أسسه وقاده الضابط السوري فوزي القاوقجي.

وفي عقد الخمسينيات من القرن العشرين بدأ اسمه يلمع في ميادين الإعلام والفن والشعر الغنائي، بسبب قيام ثلة من نجوم الطرب الكبار من مصر وسوريا، مثل: نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وسعاد محمد ورفيق شكري ونجيب السراج وفهد بلان وفدوى عبيد ومها الجابري، بغناء قصائده، وحينما تلقى دعوة لزيارة السعودية، لبّاها فوراً.

أما الذي كان وراء توجيه تلك الدعوة له فهو الشيخ جميل الحجيلان، أول وزير للإعلام في السعودية. والحجيلان، كما هو معروف، كان ملماً بأوضاع سوريا، ويعرف أدق التفاصيل عنها وعن عائلاتها ورجالاتها، كونه ولد ونشأ وتلقى تعليمه النظامي هناك، بسبب انتمائه إلى العقيلات الذين تركوا ديارهم في نجد إلى الشام للتجارة وحراسة القوافل التجارية.

وهكذا حل البرازي في جدة عام 1964 وهو شاب في الثلاثينيات يضج بالحيوية والعطاء، لينضم بعد فترة قصيرة إلى وزارة الإعلام السعودية موظفاً في قسم الموسيقى والغناء بإذاعة جدة طوال فترة حمل الشيخ الحجيلان حقيبة الإعلام. وفي عهد خليفة الأخير الشيخ إبراهيم العنقري، تم نقل البرازي للعمل بإذاعة الرياض.

يقول الدكتور زهير الأيوبي، المدير الأسبق لإذاعة الرياض، الذي عمل مع البرازي وعرفه عن كثب، في مقال له منشور في «الجزيرة الثقافية» (31/‏‏7/‏‏2011): إن صاحبنا بعد أن استقر في الرياض عمل مشرفاً على قسم الموسيقى والغناء بالإذاعة، وعضواً في لجنة التحكيم الخاصة بصلاحية الأعمال من عدمها، ومكلفاً بتقييم الإنتاج الإذاعي، كما أنه بحكم وظيفته بذل جهداً كبيراً في تأسيس فرقة موسيقية متكاملة للإذاعة بقيادة الموسيقار السوري سعيد قتلان، كما أنه أسهم في اختيار واستقدام عدد من أبرع الموسيقيين العرب من سوريا ومصر والأردن لتدعيم فرقة موسيقى الإذاعة في بواكير تأسيسها.

هذا ناهيك عن بصماته الخاصة وطريقته المتقنة في تنفيذ وتسجيل عدد من الأغاني السعودية لمطربين محليين من أمثال عبدالعزيز الراشد وسعد إبراهيم وعبدالقادر حلواني داخل استوديوهات إذاعة الرياض بالتعاون مع الأب الروحي للأغنية السعودية الموسيقار طارق عبدالحكيم، وعازف الكمان المصري الشهير أحمد الحفناوي.

وأخبرنا الأيوبي في مقاله أيضاً أنه أنهى خدمته النظامية في عهد الوزير الدكتور محمد عبده يماني، الذي تولى حقيبة الإعلام ما بين عامي 1975 ـ 1983، وظل الرجل مقيماً في الرياض ومتعاوناً مع التلفزيون السعودي في مجال رقابة البرامج، إلى أن انتقل إلى جوار ربه في 23 يونيو 2011.

وقد تميزت سنواته الأخيرة بتكالب الأمراض عليه، بالرغم من أنه كان معتدلاً في أكله وشرابه ونظام نومه، طبقاً لما روته شقيقته «مسرة»، التي تصغره بحوالي عشرين عاماً، والتي لم تتزوج كي تقوم برعاية أخيها.

ومما ذكرته عن شقيقها مسلم أنه عاش طوال حياته من دون أن يتملك عقاراً أو حتى سيارة، وأنه كان لا يخرج من شقته إلا لأمر ضروري جداً، وأن من أكثر الأشخاص الذين كان يتواصل معهم ويحبهم الملحن السوري المبدع محمد محسن، الذي لحن له معظم قصائده وأناشيده، والشاعر السوري منير الأحمد «ابن الشاعر الكبير بدوي الجبل»، والمخرج والمنتج السوري الكبير خلدون المالح.

والبرازي الذي تميز بجمال الخط، وعرف عنه حبه لقراءة القرآن والاستشهاد بآياته.

طوال فترة عمله في السعودية، ورغم كل ما مر به من ظروف، ظل البرازي مخلصاً ومحباً للسعودية، يتغنى بتاريخها، ويفاخر بمسيرتها، فألف الكثير من القصائد المغناة التي عكست هذا الإخلاص والحب.

وقد هيأت له وزارة الإعلام السعودية بعد أن وظفته فرصة التجوال في مختلف المناطق السعودية ليشاهد بأم عينه أحوالها وما تعيشه من نهضة.

وبناءً على مشاهداته نظم قصائد وصفية وأخرى غزلية عن الطائف (أغنية «لو كلفت عليك تقوللي درب الطايف فين» من ألحان وغناء وديع الصافي، وأغنية «رمان الطايف» من غناء فهد بلان)، وعن القصيم (أغنية «حنا من القصيم حنا» من لحن وغناء محرم فؤاد، وأغنية «صباح الشوق يا بريدة» غناء فدوى عبيد)، وعن جبل رضوى (أغنية «غزال رضوى» غناء فهد بلان)، وعن جدة (أغنية «مُرني بجدة»، وغناها محمد عبده في بداياته، من ألحان محمد محسن)، وعن حائل (أغنية «حائل يا بعد حيي/‏‏ يا دار الهوى المنشود» غناء طلال مداح، من ألحان طارق عبدالحكيم)، وعن أبها (أغنية «ما شفت أنا أبهى من طلتك يا أبها» من ألحان عمر كدرس، وغناء وديع الصافي)، ثم جسد البرازي قمة حسه الوصفي وبراعته الشعرية في قصيدة «هيا يا ربعي هيا» عن المنطقة الشرقية، حيث كتب نصاً غنائياً رائعاً ومحكماً أجاد فيه وصف المنطقة الشرقية، معدداً خيراتها، وماراً على معالمها، وآتياً على ذكر معظم مدنها بالاسم.

لكن قبل أن يكتب كل هذه الأغاني، تجلت عبقرية البرازي في مجال الشعر الغنائي الوطني من خلال نشيد ظل يتردد طويلاً على ألسن السعوديين كباراً وصغاراً، ألا وهو نشيد «فيصلنا يا فيصلنا»، الذي نظمه بمناسبة افتتاح إذاعة الرياض، وقام الموسيقار طارق عبدالحكيم بتلحينه، وأدائه مع المجموعة.

ثم أتبعه بنشيد آخر عن الملك فيصل، نال أيضاً الاستحسان والإعجاب، وهو نشيد «سلمك الله يا بوعبدالله»، الذي لحنه وأداه وديع الصافي. وبعد هذين النشيدين الناجحين، قدم نشيداً ثالثاً عن الفيصل بعنوان «فيصل هو الحد الفاصل/‏‏ بين الحق والباطل»، وهو العمل الذي كان له صدى واسع بعد أن غنّاه فهد فلان.

قرأ البرازي الكثير عن تاريخ السعودية وتأسيسها على يد موحدها الملك عبدالعزيز، فأحب هذا التاريخ وما تضمنه من بطولات وتضحيات. وحينما حلت مناسبة اليوم الوطني السعودي أراد أن يحتفي بها كغيره، فكتب قصيدة «أبو تركي وأخو نورة»، التي لحنها محسن محمد وغنتها المجموعة.

أما آخر نشيد وطني قدمه للسعودية، فهو نشيد «أمن وأمان» من أداء المجموعة، الذي أشاد فيه حينذاك بإنجازات الملك فهد بن عبدالعزيز، وولي عهده عبدالله بن عبدالعزيز، بقوله: «العدل أساس الملك هنا وهو الميزان/‏‏ والفهد وعبدالله لنا أمن وأمان».

نقل الكاتب علي فقندش على لسان الإعلامي السعودي عبدالرحمن يغمور، في مقال له بجريدة عكاظ (20/‏‏7/‏‏2011) قوله عن البرازي: «كان من أطيب الناس خلقاً في الوسط الإعلامي.. لا أتذكر أنه انخرط في خصومة مع أحد، وكان إلى جانب زميله الفنان اللبناني الراحل رشيد علامة في إذاعة جدة من أكثر المتعاملين بمنتهى الذوق والأدب وحب العمل والتفاني فيه».

 

Email