«حكايات أهل الفن»

حكاية محمد فوزي مع المرض والتأميم والوفاة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عام 1958 تمكن الفنان القدير والموسيقار العبقري السابق لعصره «محمد فوزي عبد العال الحو» الشهير بمحمد فوزي والمولود بمحافظة الغربية سنة 1918، من تحقيق حلم حياته بإطلاق شركة «مصرفون» لإنتاج الأسطوانات، كأول مصنع من نوعه في الشرق الأوسط بأسره، وبرأسمال مصري خالص.

أعتبر ذلك حدثاً كبيراً ليس على المستوى الفني والتقني فحسب، وإنما أيضاً على المستوى الاقتصادي، كون المشروع وفر على الدولة كماً كبيراً من العملة الصعبة، ووظف أعداداً معتبرة من العمالة المحلية، ووفر للجمهور أسطوانات غير قابلة للكسر ومحتوية على أكثر من أغنية بثمن بخس (35 قرشاً)، مقابل الأسطوانات المستوردة القابلة للكسر والتي كان سعرها يصل إلى 90 قرشاً.

وقف المشروع على قدميه بثبات ونجح نجاحاً مشهوداً، إلى درجة أن صاحبه فكر في اعتزال الغناء والتلحين والتمثيل وهو في أوج تألقه وشهرته كي يتسنى له التفرغ التام لإدارة «مصرفون» والتوسع فيه.

وبدلاً من أن تقدر له الحكومة هذا الإنجاز وتشجعه وتدعمه وتكرمه على جهوده وإنفاق مدخرات عمره في سبيل تأسيس مشروع وطني رائد وداعم للاقتصاد المصري، قامت السلطات بتأميم الشركة في حملة التأميمات الاشتراكية سنة 1961.

لقد كانت صدمة مؤلمة لفوزي يوم أن حضر إلى شركته صبيحة ذلك اليوم المشؤوم من يوليو 1961 ليجد مكتبه محتلاً من قبل ضابط يخبره بأن قراراً صدر بتأميم شركته ومصنعه، وأنه لم يعد مالكاً لهما وإنما مجرد موظف براتب مائة جنيه شهرياً. كاد فوزي أن ينهار، خصوصاً بعد أن علم أن مكتبه سيكون في آخر زاوية من المبنى داخل غرفة صغيرة كانت تستخدم لعمل الشاي والقهوة، وبعد أن رأى صورته المبروزة في مدخل المبنى مرمية في دورة المياه.

على إثر هذا الحدث الصادم دخل فوزي في نوبة اكتئاب حادة، وتفاقمت أوجاعه النفسية لما علم أن شركة إسطوانات «صوت الفن» المملوكة شراكة لمحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ استثنيت من عملية التأميم.

ويقال إن سبب عدم استثناء «مصرفون» أسوة بـ «صوت الفن» هو صداقة فوزي لرئيس الجمهورية المعتقل اللواء محمد نجيب من جهة، ورفض فوزي تقديم أغاني تمجد عبد الناصر، أو المشاركة مع زملائه في نشيدي «وطني الأكبر» و«الجيل الصاعد» من جهة أخرى، رغم أنه لم يكن معادياً لنظام 23 يوليو، أو مشاركاً في معارضته، وإنما كان متمسكاً بمبدأ الغناء للوطن فحسب.

استمرت أحوال فوزي النفسية والبدنية في التدهور والتفاقم نتيجة إحساسه بالقهر والظلم إلى أن أصيب بمرض نادر احتار في تشخيصه الأطباء، هذا المرض الذي امتص جسده شيئاً فشيئاً إلى أن وصل وزنه إلى 35 كيلوغراماً.

وبطبيعة الحال، بلغت حكاية مرضه النادر أسماع المسؤولين، لكن لم يتحرك أي منهم لإصدار قرار مبكر بإرساله إلى الخارج للعلاج على نفقة الدولة، في الوقت الذي كان فيه عبد الحليم حافظ يسافر سنوياً إلى الخارج للعلاج من البلهارسيا على نفقة الحكومة. ومن هنا قيلت عبارة «إذا كنت عايز تعيش فعيش زي حليم، وإذا كنت عايز تموت فموت زي فوزي».

لم يستفد فوزي من العلاج الذي قدم له سواء في الداخل أم في بريطانيا وألمانيا اللتين سافر إليهما برفقة زوجته الفنانة «كريمة»، فودع الدنيا في 20 أكتوبر 1966، تاركاً خلفه مآثر كثيرة منها قيامه بتسجيل تراتيل قرآنية لإثنين من أشهر المقرئين المصريين (الحصري والمنشاوي) على أسطوانات، وبيعها بسعر التكلفة.

ومما قيل، أن الإذاعة المصرية، بعد هزيمة يونيو 1967، راحت تبحث عن أغنية وطنية، فلم تجد سوى أغنية «بلدي أحببتك يا بلدي» التي غناها فوزي في عيد الثورة سنة 1963. ويعتبر فوزي الفنان المصري الوحيد الذي امتدت جنازته من ميدان التحرير إلى حي الحسين، وصلي عليه ثلاث مرات: الأولى في مسجد عمر مكرم، والثانية في مسجد الحسين، والثالثة في الكحلاوي بالبساتين حيث تم دفنه، وحيث شارك المطرب محمد الكحلاوي في تلاوة القرآن على روحه.

أما مصاريف الدفن وسرادق العزاء فقد تكفلت به وزارة الإرشاد القومي وهيئة الإذاعة وجمعية المؤلفين. كتبت الصحف المصرية عن جنازته المهيبة، فقالت إن من بين المشاركين فيها ممن أغمي عليهم ونقلوا بعيداً للعلاج إسماعيل يس وأرملة الفقيد كريمة وأخته هدى سلطان وطليقته مديحة يسري وزميلته تحية كاريوكا، وإن الفنان محرم فؤاد أصر على حمل النعش، وأن يوسف وهبي أصر على توديع الراحل إلى داخل المقبرة. رحم الله فوزي، فقد عاش كبيراً ومات كبيراً.

 

Email