تفكيك النصيحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا رجعنا إلى معنى النصيحة الحرفي في معجم اللغة العربية، نجد أنها تعني الإخلاص في الرأي، أو الوعظ والإرشاد، والدعوة إلى الخير والصلاح. أصل الكلمة يعود إلى الفعل نَصَحَ (الشيء) ومعناه خَلَصَ. وكلمة نَاصِح تعني الخالص أو الصافي أو النقي.

لكن المعنى المجرد للنصيحة هذا لا يتطابق تماماً مع ما تواضع الناس عليه من معنى، ومع تعين أساليب النصيحة وأغراضها وأسبابها المستترة.

تدل النصيحة الصادرة من شخص لا تطلبها منه على إن وعي هذا الشخص بذاته وعي بالتفوق وبتفوقه عليك، تفوق يسمح له أن يكون سلطة. النصيحة هنا صورة من صور السلطة. وهذا معناه بأنك أيها المنصوح أقل دراية ومعرفة من الناصح دون اعتراف منك بذلك. حتى لو كانت النصيحة صادرة عن محبة وحرص على المنصوح. يشعر الناصح هنا، الناصح الذي لم تطلب منه النصيحة، بمتعة السلطة والقوة. وهذه الحال صورة من صور العجرفة المستترة. أما النصيحة الأكثر سوءاً فتظهر أكثر ما تظهر في نصيحة الآخر الذي لم يطلبها أمام الآخرين. وقد أشار الفقيه العربي الشافعي إلى هذا حين قال:

تعمّدني بنصحك فـي انفـرادي

                 وجنّبني النصيحة في الجماعة

فإن النُصــح بيــن الناس نـوعٌ

                  من التوبيخ لا أرضى استماعه

وإن خالفتنـي وعصيت قولي

                 فلا تجــزع إذا لم تُعطَ طاعــة

كما قال ابن حزم: إذا نصحتَ فانْصَح سِراً لا جهراً، أو بتَعريضٍ لا بتصريحٍ. السر هنا يعني أن لا يعرف أحد غير الناصح والمنصوح بأمر النصيحة، لأن لا أحد يطلب النصيحة إلا إذا واجه مشكلة خاصة يطلب الرأي في حلها.

أما معنى النصيحة بتعريض فهو إسداء النصح بشكل غير مباشر، وتلميحاً ليس إلا، وذلك حفاظاً على احترامك للآخر.

وهناك نمط من الناصحين الذين يقدمون النصيحة بدافع الحسد، ومن دون أن يطلب منه ذلك أيضاً. كنصيحة الأدنى معرفة للأعلى، والأقل موهبة للأكثر، والفاقد للحضور لمن حضوره عاصف. شعوره بالدونية والحسد يحمله على تعويض ذلك بإسداء النصيحة، فيشعر بأنه مساوٍ لك في القيمة أو أكثر. وذروة الاعتداء عندما يأخذ الحسد صورة إسداء النصيحة من قبل حاسد، أقل شأناً من المحسود المنصوح.

وهناك الناصح الذي تطلب منه النصيحة، وهذا نوع من اعتراف المنصوح بأهمية الناصح وثراء تجربته وعلو معرفته وتفوقه عليك بموضوع النصيحة على الأقل.

وبمعزل عن شعور الناصح بالاعتداد فإن هناك علاقة تراضٍ بين الناصح والمنصوح. ويكون المنصوح مديناً للناصح عن طيب خاطر، لأن العلاقة هذه قد تمت في حقل الحرية، لأن النصيحة هنا تعني المشاورة، والمشاورة الاستئناس برأي من تراه من أهل المشورة.

وهناك نصيحة الحب العميق، وهي في الغالب وقف على نصيحة الأم والأب للأولاد والجدة والجد للأحفاد إن طلبوها أو لم.

فنصائح كهذه مبرأة عن أي غرض مشبوه ودافعها الحب، وتجد قبولاً عند الأولاد والأحفاد حتى لو لم يأخذوا بها، وهم لا يأخذون بها في الغالب بسبب اختلاف وعي الأجيال وتغير الأحوال.

وفي الخلاصة:

النصيحة علاقة اعتراف بين الناصح والمنصوح، المنصوح اعترف بقيمة الناصح والناصح اعترف بأهمية المنصوح بالنسبة له، وهذا يعني بأن النصيحة هي شكل من أشكال تعيّن المحبة.

في حين أن كل من يقدم لك نصيحة من دون أن تطلبها منه شخص يتطفل عليك، بل ويعتدي عليك، فالناصح هنا شخص يعتقد بتفوقه عليك في الحقل الذي تتم فيه النصيحة، ويمثل دور الأكثر بأنه أحرص عليك من حرصك على نفسك، إنه يسمح لنفسه بالتدخل في شؤونك، ويمارس السلطة بوصفه حكيماً، ويقوم بدور المعلم ظناً منه بأنه يمتلك الحكمة والمعرفة اللتين تفتقر إليهما، لكنه في الحقيقة لا يمتلك سوى الظل الثقيل والعادة السيئة.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email