الحراك التصحيحي يحتاج تصحيحاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

انقضى 14 يناير كغيره من الأيام، ولم يكن هذا اليوم تاريخاً لـ«عهد جديد» تذهب فيه سلطة وتحل مكانها سلطة أخرى ملوثة بجرائم وأهوال عشرية حُكْم كانت وبالاً على تونس وحاولت فيها «النهضة الإخوانية» الهيمنة على مقدرات حياة المواطن التونسي.

أراد الحزب الإخواني أن يكون إحياء ذكرى سقوط نظام زين العابدين بن علي في 14 يناير 2021 مناسبة لفرض شروط عودتها إلى الحُكْم، الذي أجبرت على تركه بقرار شعبي غير قابل للتراجع فيه، والمؤشرات على ذلك كثيرة، منها: أولاً أن الحركة الإخوانية لم تنجح مع حلفائها الجدد في حشد أكثر من ثلاثة آلاف شخص، اقتصر أغلبهم على أنصارها من كل المحافظات رغم مجهودات تعبئة دامت أكثر من شهر، وذلك في محاولة للظهور بأنها لم تتأثر بخروجها من السلطة.

من جهته انتقد «الدستوري الحر»، الذي تتزعمه عبير موسي، التضييقات التي «فرضت عليه، والتي منعته من أن ينظم تظاهرة تتماشى مع حجمه الحقيقي في الواقع».

وأما عن الأطراف السياسية الأخرى واليسارية بالخصوص فقد كان حضورها باهتاً وضعيفاً، لاعتبارات عديدة ومختلفة.

العامل الثاني الذي يؤشر على الضعف المتناهي لحركة النهضة الإخوانية هو عجزها المطلق عن تجميع معارضي الرئيس التونسي قيس سعيد ضده، واكتفت بأطراف وشخصيات تبحث عن موقع ومنفعة قبل فوات الأوان بسبب انعدام التأثير الشعبي لهذه الأطراف وانتهاء صلاحياتها واهتراء مصداقيتها.

العامل الثالث على ضعف المعارضة عموماً في تونس هو استحالة قدرتها على التوحد وحتى التحالف لتناقض المصالح والمنطلقات، ولانعدام الثقة بينها.

ورغم فشل معارضو الرئيس التونسي قيس سعيد في «الإطاحة بنظام 25 يوليو» مثلما «بشر» بذلك قياديو النهضة الإخوانية ومن يدور في فلكهم، إلا أن الجانب الرمزي لتجميع الأغلبية المطلقة للطيف السياسي والحزبي يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار، خصوصاً وأن الطيف المدني، وعلى رأسه الاتحاد العام التونسي للشغل، ما انفك هو الآخر يبدي انتقاداته تجاه سياسة الحكومة، التي ترفض الدخول في مفاوضات جدية من أجل تحسين الواقع المعيشي.

ويُحسب للاتحاد العام التونسي للشغل أنه رفض الانخراط مع الأحزاب، وخصوصاً مع «جبهة الخلاص»، التي يعتبرها «أداة النهضة الإخوانية للرجوع إلى السلطة»، وفي المقابل لم يتيسر للاتحاد التحالف مع القوى الحزبية الوطنية، نظراً لعدم فَهْم هذه الأخيرة طبيعة هذه المنظمة الوطنية المفصلية في حياة تونس، كما لم تتفهم هذه القوى الوطنية أهمية أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة مستقلة، وانعدام الفهم هذا أسبابه تاريخية فيما يبدو.

إن استقلالية قرار المنظمة النقابية هي التي تفسر ديمومة تأثيرها في الواقع وفي تسيير الشأن العام، وهو الأمر الذي لم تستطع السلطة على مدى عقود مضت تقبله واستيعابه، لأنها ترى فيه تهديداً مباشراً لسلطتها، ويكاد الشيء نفسه يتكرر اليوم.

ومثلما تؤكد الشواهد التاريخية في تونس أن الأنظمة والحكومات لا تسقط بفعل الحراك السياسي للأحزاب المعارضة مهما عظم شأنها، ناهيك عن أحزاب فاقدة رصيدها الشعبي والسياسي والأخلاقي، فكل التغييرات التي حصلت في تاريخ تونس الحديث والقديم كانت داخل المنظومة، ونتيجة مباشرة للحراك المجتمعي، الذي عادة ما يقوده الاتحاد العام التونسي للشغل.

إن تونس التي عاشت على مدى تاريخها تجربة خصوصية متفردة تأسس فيها الحُكْم بعد استقلالها على التقاء السياسي بالحضاري والثقافي في إطار تنويري معاصر، دخلت منذ 14 يناير 2011 مرحلة خطيرة وغير مسبوقة في تاريخها، إذ فتح الحراك المجتمعي، باب الحل من خارج المنظومة، وأتاح فرصة سانحة لحزب النهضة الإخواني للثأر من القوى التنويرية التي حكمت تونس على مدى عقود استقلالها، إلا أن تجذر الفكر الحر في تونس مكنها من كشف مخطط «الإخوان» في وقت قياسي.

وكان المأمول أن يُكمل حراك 25 يوليو 2011 المهمة، إلا أن هذا الحراك المحمود اختار التموقع خارج السياق التاريخي للصراع في تونس بين القوى التقليدية «المحافظة» والمتسترة بالدين، التي تحمل لواءها الآن حركة النهضة الإخوانية والقوى التقدمية التي حكمت تونس وتربطها شراكة استراتيجية مع الطيف المدني، وخصوصاً الاتحاد العام التونسي للشغل.

إن الطريق الثالث الذي اختاره الحراك التصحيحي لـ25 يوليو 2021 لم يكن مسبوقاً بحراك ثقافي وفكري يرسخه في المجتمع ويحصنه ضد الارتدادات والتوظيفات «الإخوانية»، وهو ما يتطلب تصحيحاً عاجلاً، وعودة فورية إلى سكة الصراع التقليدي التاريخي من خلال ربط جسور التواصل مع الطيف المدني والسياسي والحزبي الوطني، والقضاء الكامل على الشروط التي تفتح باب الأمل للحركة الإخوانية.

 

* كاتب تونسي

Email