شخصيات تحت المجهر

فخري شهاب.. مهندس اقتصاد الكويت وعراب دينارها

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مقابلة مع جريدة الزمان العراقية، بتاريخ 19 ديسمبر 2002، قال فخري شهاب، الذي كان مستشاراً في الدائرة المالية لحكومة الكويت، إنه حينما التقى للمرة الأولى برئيس الدائرة، الشيخ جابر الأحمد الصباح سنة 1959، شعر بأن الرجل ولد ليكون قائد دولة. كان ذلك قبل سنوات من توليه الحكم، أميراً لدولة الكويت سنة 1977.

فما قصة هذا الرجل؟، وكيف ارتبط بالشيخ جابر، وعمل تحت أمرته، وما الأدوار التي لعبها في الكويت، حتى صار اسماً خالداً في تاريخها الاقتصادي والمالي؟

يعد الدكتور فخري أحمد شهاب من قامات العراق الاقتصادية الكبيرة، لكنه عاش في الكويت، التي استفادت من علمه ونبوغه وخبرته، قبل استقلالها وبعده، من فلسفته الاقتصادية في تحقيق طفرة تنموية شملت البشر والحجر، وانعكست إيجاباً على رفاهية المجتمع، حاضراً ومستقبلاً.

ولد فخري شهاب بالبصرة في يناير 1921، وبها نشأ، وأتم مراحل تعليمه الأساسية. وبعد تخرجه من الثانوية في ثلاثينيات القرن العشرين، قرر أن يدرس القانون، ليصبح محامياً أو قاضياً، ولهذا انتقل إلى بغداد، والتحق فيها عام 1939 بكلية القانون التابعة لجامعة بغداد.

ممن زاملهم في كليته آنذاك «جاسم حمد يوسف الصقر» (1918 ــ 2006)، الذي سيصبح لاحقاً من رجال الاقتصاد والسياسة والصحافة في بلده الكويت. في رثاء الصقر وقت وفاته سنة 2006، كتب شهاب عن ظروف تعارفهما وافتراقهما، فقال ما مفاده أن صداقته للفقيد استمرت 77 عاماً، منذ أن تعارفا في بداية السنة الدراسية بكلية الحقوق في بغداد، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأيام، وأنهما اشتركا في حب بعض المواد في برامج الدراسة، وتفضيل بعض الأساتذة على سواهم، وأن صداقتهما استمرت بعد تخرجهما معاً عام 1943، رغم افتراقهما بسبب سفره هو إلى الخارج، وعودة الصقر إلى البصرة، قبل أن يجتمعا مجدداً بعد ربع قرن، من خلال العمل سوياً في صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية العربية.

بعد تخرجه في جامعته عام 1943، شعر شهاب برغبة جامحة في تلقي المزيد من العلوم والمعارف في مجال تخصصه، فشد الرحال إلى مصر سنة 1945 لنيل درجة الماجستير في القانون، من جامعة فؤاد الأول، لكن ما حدث، هو أنه أثناء وجوده في مصر، أحس بميل للتخصص في علم الاقتصاد، وعليه، قرر أن يكون الاقتصاد هو ركيزة دراساته العليا، وحصل بالفعل على درجة الماجستير فيه.

ومرة أخرى، قاده شغفه بالتحصيل العلمي العالي إلى انجلترا، حيث التحق هناك بجامعة أكسفورد، التي لم تمنحه درجة الدكتوراه في الاقتصاد بامتياز فحسب، وإنما، وظفته أيضاً مدرساً في كلية الاقتصاد التابعة لها، ليدخل التاريخ كأول عراقي يدرس بهذه الجامعة المرموقة عالمياً، ويشتغل بالتدريس فيها.. هذا علماً بأن توظيفه في أكسفورد، فتح له الباب للتدريس في جامعات أجنبية مرموقة أخرى، مثل جامعة برنستون الأمريكية. وهكذا استقر الرجل في لندن، وتزوج فيها من سيدة بريطانية، أنجب منها ابنتين.

وفي هذه الفترة، وتحديداً أواخر خمسينيات القرن العشرين، كانت الكويت قد تحولت إلى ورشة عمل وإنماء، بفضل مداخيلها النفطية الهائلة، وكان الشيخ جابر الأحمد الجابر، يتولى حينها دائرة المالية المعنية بالتخطيط الاقتصادي، والإنفاق على المشاريع التنموية، فاقترح عليه أحد مساعديه، وهو الخبير النفطي الكويتي، فيصل منصور المزيدي، الاستعانة بفخري شهاب، الذي كان وقتها اسماً متداولاً في العراق وخارجه، كأحد العباقرة العرب في مجالي الاقتصاد والمال.

وعلى الرغم من حياته الهانئة في بريطانيا، ورضاه عن عمله الأكاديمي في أكسفورد، إلا أنه آثر أن يلبي نداء البلد العربي المجاور لمسقط رأسه، طالما أن الأخير سعى لطلب خبرته. وعليه، انتقل من بريطانيا إلى الكويت، ليعمل مستشاراً للشيخ جابر الأحمد، منذ أواخر الخمسينيات وحتى وفاته سنة 2006. وخلال هذه الفترة الطويلة من حياته، توثقت علاقته بكبار المسؤولين الكويتيين، وفي مقدمهم، بطبيعة الحال، الشيخ جابر الأحمد، الذي استصدر أمراً بمنحه الجنسية الكويتية سنة 1959، فأصبح حاملاً للجنسيتين العراقية والكويتية.

وبصفته الوظيفية الاستشارية، وعضويته في مجلس النقد الكويتي (تأسس بمرسوم أميري عام 1960، واستبدل في عام 1968 ببنك الكويت المركزي)، وعضويته في فريق العمل الاقتصادي المحيط بالشيخ جابر الأحمد، وبالتعاون مع زملائه، راح شهاب يعطي الكويت عصارة علمه وخبرته، مقترحاً العديد من الاقتراحات المتفقة مع فلسفته الاقتصادية. ولحسن حظه وحظ الكويت، تم تبني معظم مقترحاته، وعلى رأسها، ضرورة استغلال الفوائض المالية للدولة استغلالاً صحيحاً.

فهو، مثلاً، من رأى أن الكويت تفتقر للموارد الطبيعية، وليس لديها سوى مورد وحيد قابل للنضوب، عاجلاً أو آجلاً، وبالتالي، اقترح ضرورة الإسراع في استخدام عائدات النفط في ضروب التنمية المختلفة، وتطوير البنى التحتية الطبيعية والبشرية، لخلق مصادر مساندة للدخل المتأتي من النفط.

وهو من اقترح ضرورة استقطاع 10 % من الدخل الجاري، لتكوين صندوق احتياطي من المدخرات للأجيال القادمة، من منطلق حق الأخيرة في ثروات بلدها، وأيضاً لتجنب أي معاناة في أوقات الشدائد والمحن والعسر المالي.

إلى ما سبق، كان شهاب حلقة وصل اقتصادية بين الكويت والعالم الخارجي. ومن موقعه الوظيفي، ساهم في فترة الستينيات والسبعينيات، في تأسيس شركات مالية مختلفة، من تلك التي لعبت دوراً حيوياً في ازدهار الكويت ورخائها. كما كان قبل ذلك وراء فكرة تأسيس المجلس الأعلى للتخطيط، الذي أبصر النور سنة 1962، كبديل لمجلس الإنشاء، الذي انتهت مهامه، وأسدل الستار عليه سنة 1961.

على أن أكبر عمل أنجزه لصالح الكويت في سنواته، هو هندسته لعملية تحويل نظام النقد القديم من الروبية الهندية (عملة ما قبل الاستقلال)، إلى نظام النقد الحالي، المتمثل في الدينار الكويتي، والذي تمّ اعتماده كعملة وطنية منذ عام 1960. ولهذا، حقّ له أن يلقب بـ «عراب الدينار الكويتي»، وأن يصبح هذا اللقب مرادفاً لاسمه، إلى جانب ألقاب أخرى، مثل «مهندس الاقتصاد الكويتي»، و«راهب الاقتصاد».

ظل شهاب مقيماً في الكويت، يعيش بمفرده، رافضاً كل محاولات ابنتيه للالتحاق بهما والإقامة معها في الغرب، ومفضلاً الانعزال والوحدة، مع الاستمرار في تقديم استشاراته الاقتصادية والمالية لمن يريد، والحرص على رفد الصحافتين العربية والأجنبية والدوريات الأكاديمية الرصينة، بمقالات سياسية واقتصادية باللغات الثلاث التي أجادها (العربية والإنجليزية والفرنسية). وكان سميره في هذه الأثناء، الكتاب والمذياع والأغاني الأجنبية الراقية والموسيقى الكلاسيكية، وهواية كتابة الأشعار الصوفية.

وفي سنواته الأخيرة ــ وبالرغم من اهتمامه بصحته، وتجنبه أكل اللحوم بكافة أنواعها، وحرصه على أخذ قسط طويل من النوم يومياً ــ عانى من أمراض الشيخوخة، فضعف سمعه وبصره، وقلت حركته، ما اضطره للاستعانة بخدمات شاب هندي، وظفه كي يحضر يومياً إلى داره، ليقرأ عليه آخر الإصدارات، والطازج من أخبار الصحافة العالمية. كما وظف سيدتين من الجنسية الهندية، كي تتناوبا على رعايته، والاهتمام بأكله وهندامه.

وظل شهاب على هذا المنوال، قنوعاً، لا يشتكي من أي معاناة صحية خطرة، وسعيداً بالبعض القليل ممن كانوا يسألون عنه من معارفه الباقين على قيد الحياة، أو ممن كانوا يترددون عليه بين فترة وأخرى (ومنهم كويتيون كانوا يأتونه كل عام للاحتفال بعيد ميلاده، حباً ووفاء وتقديراً لما قدمه للكويت).

لكنه تعرض فجأة في مساء يوم 11 أكتوبر 2022، لأزمة صحية مفاجئة، فارق على إثرها الحياة، عن 101 عام. وكان من الطبيعي، في حالة شخصية مثله، أن تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بخبر رحيله، حزناً، ورثاء وذكراً لمآثره ونبل أخلاقه.

وفي دلالة على مكانته عند أمراء وشيوخ الكويت، التي أحبها وأخلص لها، ورفض مغادرتها، واعتزازاً منهم بما قدمه لبلدهم من جليل الأعمال، بعث أمير دولة الكويت، الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، برقية تعزية إلى أسرته، استذكر فيها مسيرة حياته الحافلة بالعطاء، وإسهاماته في وضع أطر النظام الاقتصادي في البلاد.

وأخيراً، فإن مما يجدر بنا ذكره، هو أن قائمة الوظائف التي تقلدها الراحل، اشتملت ــ عدا ما ذكرناه آنفاً ــ على عمله مستشاراً لأكثر من جهة. فقد عمل مستشاراً اقتصادياً لسكرتارية هيئة الأمم المتحدة، ومستشاراً اقتصادياً ومالياً لمجلس الوزراء العراقي، وللحكومة العراقية، ولحكومة بنما، ولشركة «متسوي» اليابانية في طوكيو ولندن.

 

Email