العقلية المتحجرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك من «يتكيف»، وهناك من «يتحجر» في التصدي لمجريات الحياة، فمهما حاول البعض إقناعه أو تنبيهه يجد ذلك المتحجر صعوبة بالغة في تقبل التغيير، فهو عقل صلب أقرب للحجر.

كان في السابق يُمدح القائد الصلب، والمقدام، الذي لا يتراجع حتى ولو كان هناك شك في قراره، حفاظاً على «ماء وجهه»، وبسطاً لنفوذه في القرون السالفة.

ومع تطور المجتمعات، وتحضر الممارسات، وتوسع رقعة الأعمال، وتعدد تخصصات البشر، صار القائد المندفع، الذي يضرب بكل ذلك في عرض الحائط، محل نقد ونفور، فنحن نعيش في زمن لم يعد يمتلك فيه المسؤول كل المعلومات ولا كل الحقائق.

فقد كبرت المؤسسات، وصار هناك من يقود آلاف مقارنة في بدائيات فجر التاريخ، عندما كان عدد البشر محدوداً جداً في المتاجر والمعامل الصغيرة، أما الآن فيسمع هدير آلاف المصانع في أكثر من رقعة جغرافية، لتنتج ملايين القطع، تلبي بها حاجة السوق، وتعددت التخصصات، وتعمقت مثل التسويق، والتواصل، والتمويل، والمحاسبة، واحترافية التعامل مع الأزمات، كلها جعلت فكرة التحجر أو تجاهل الآخرين مسألة محفوفة بالمخاطر.

ولهذا، لا بد من تكيف المسؤولين ومتخذي القرار مع تغيرات المشهد من حولهم، لا سيما أن المرونة والانفتاح خصال ممدوحة مقارنة بالصرامة التقليدية للقائد، فالعين الحمراء أو «تحمير العين» ليس هو ما يحتاج إليه المسؤول في عصرنا للدفع بعجلة التقدم، بل صار بحاجة إلى إرهاف السمع، وتدبر كل ما يجري من حوله، تفادياً للأخطاء غير المتوقعة.

وربما تعود أسباب تشبث البعض بالعقلية المتحجرة إلى نشأته، فهو لم يتعود على سماع الآراء في منزله، ولا في بيئة عمله. هناك دائماً شخص أوحد يحسب النقاش لصالحه، فترعرع على ذلك الأسلوب، ونحن في الواقع نأخذ سلوكياتنا من تجاربنا السابقة، ولهذا يفكر أكثر من مرة فريق التوظيف أو متخذو القرار عند تعيين شخص قادم من بيئة روتينية أو لا تتواءم مع طبيعة العمل.

وهناك من يجد في التشبث بأفكاره أو آرائه أريحية، لأنه يرى في التغيير محاولة للخروج من منطقة الراحة comfort zone، غير أن في الخروج من منطقة الراحة فرصة لاكتشافات جديدة، وتجربة مختلفة، وربما كانت فرصة لتقليل التكلفة ورفع الجودة، بدلاً من التعلق بمؤسسات أو أفراد كل مؤهلاتهم أن علاقتنا بهم قديمة!

والتحجر أنواع، فهناك من تحجر قلبه، فصار يأكل مال هذا، ويئد مواهب ذاك من دون أدنى اكتراث لعواقب سلوكه، وهناك تحجر يبقى أثره حتى ولو غادر المتحجر عمله، مثلما يحدث في علم طبيعة الأرض عندما تتحجر الصخور الرسوبية Lithification، ويبقى أثرها صلداً شاهداً على رفضها التكيف مع متغيرات الحياة.

وهذا مثال حي على بقايا عقلية القائد المتحجر، وهم أولئك الذين أمضوا معه سنوات عديدة، بالعقلية نفسها حتى غادرهم، ولم يفيقوا من غفلتهم إلا بعدما واجهوا إدارة جديدة أو روحاً شبابية لم تعد تتحملهم.

هنا يدخل هؤلاء في مفترق طرق إما أن يستمروا ليطيلوا أمد المواجهة والألم وإما يتكيفوا مع متغيرات الواقع.

والتغير لا يعني التنازل عن القيم الحاكمة أو الكبرى كالصدق والأمانة والنزاهة، فهذه وغيرها هي أساس كيان المرء وحفظه من الأهواء ونوازع الشر، لكننا نقصد المرونة، التي تتقبل الجديد، وتسايره، وتحاول التفوق على المحيطين به، ليبقى المرء دوماً في دائرة التنافس.

فقد أصبحنا في عصر، لم تعد تكفي فيه مهارة واحدة، بل لا بد من وجود مهارات عديدة، يضمن بها الإنسان بقاءه في ميادين التنافس الشريف، وكما قيل: «لا تكن ليناً فتُعصَر ولا صلباً فتُكْسَر».

*كاتب كويتي متخصص في الإدارة

د.محمد النغيمش *

Email