المنعرج الأخير في الحرب ضد «الإخوان»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما فتئت التحقيقات الأمنية في تونس تُثبت بما لا يدع مجالاً للشك، الحجم الهائل للتدفقات المالية الخارجية والداخلية التي كانت تستفيد منها العديد من الجمعيات الأهلية، التي تشتغل في الظاهر تحت يافطة العمل الخيري، لكنه تبيّن مع تقدّم التحقيقات أنّ هذا الغطاء هو لإخفاء تمويل نشاط أحزاب في مجال السياسة وفي مجالات أخرى تقع تحت طائلة القانون.

وتفيد التحقيقات الأمنية أنّ قيمة التدفّقات المالية تقدّر بمئات الملايين من الدولارات وتصبّ كلها في خانة جمعيات مجتمع مدني تدور في فلك حركة «النهضة الإخوانية»، وهي تدفّقات أسهمت على مدى السنوات في تمويل النشاط المعلن وغير المعلن «حلاله وحرامه» لحزب النهضة الإخواني.

ويشمل التحقيق في هذا المجال العشرات من الشخصيات المنتمية أو القريبة من فرع تونس الإخواني، الكثير منهم محلّ تفتيش ومنهم نجل رئيس الحركة الإخوانية معاذ الغنّوشي الموجود خارج تونس والذي أُدرج اسمه آخر الأسبوع ضمن قائمة المفتش عنهم، كما علمنا أن الإجراءات العملية للحجر على أموال وممتلكات 101 شخصية بدأت.

وتؤكّد التحقيقات التي تقوم بها وحدات أمنية مختصّة في الجرائم المالية المتشعّبة أنّ الأصل في عمل جماعات الإخوان هو وجود شبكة دولية تيسّر عمليات التدفق المالي لتمويل نشاطات الحركات الإخوانية في مختلف الدول ومنها تونس، وذلك عن طريق «الجمعيات الخيرية» أو بعض الشخصيات.

ولعلها المرة الأولى التي يفتح فيها ملف تمويل حركة «الإخوان» أمنياً وقضائياً على هذا النطاق الواسع، بما كشف تعقيدات هذه العملية ومدى ارتباطاتها بشبكات دولية تشتغل بطرق ووسائل المافيا والجريمة المنظمّة، وذلك خدمة للأهداف السياسية لحركة «الإخوان» الدولية وفروعها في مختلف البلدان.

ورغم التظاهر التكتيكي وعلى سبيل المواربة والمناورة باستقلالية هذه الفروع عن الحركة الأم، أظهرت التحقيقات الأمنية والقضائية أنّ مسألة التمويل تكشف بوضوح عمق العلاقات بين الفروع والأصل بما يشرّع بجدية الحديث عن وجود روابط تنظيمية قائمة، ما انفكت تطورات الأحداث في تونس وغيرها من الدول تؤكدها.

بينت التحقيقات إذاً أن التمويل عن طريق التدفقات المالية للمنظمات الأهلية وتبييض الأموال هي «أم الجرائم» وهي الأصل في النشاط العلني والسرّي لحركات «الإخوان» ومشتقاتها، ودونها تستحيل بعض الجرائم الأخرى.

وإنّ الكمّ الهائل من التدفقات المالية من الداخل ومن الخارج بالخصوص والمثبتة من لجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي التونسي، التي تستفيد منها بعض الجمعيات والأشخاص والمبالغ الضخمة التي توفّرها عمليات تبييض الأموال، ساهمت وتساهم في تمويل النشاط السياسي لحركة «النهضة الإخوانية» وهي التي سهلت شراء الذمم في مختلف القطاعات، وكذلك يسرت اختراق الإدارة والدولة، وهي التي مولت كما هو مثبت في التحقيقات الأمنية والقضائية عمليات تسفير الشباب التونسي وغيره لبؤر التوتر، وهي التي قد تكون مولت الاغتيالات والجرائم السياسية الأخرى.

ولأنّ نوعية هذه الجرائم المالية هي عابرة للقارات وجب على الإنتربول الدولي التخلّص من «عقدة» الحيادية التي يتضمنها البند الثالث من القانون المنظم له حتى يتسنى له المساهمة في الوصول إلى حقيقة بعض الجرائم، وحتى لا تكون هذه «الحيادية» في بعض القضايا، خصوصاً الإرهابية ذريعة الإرهابيين للإفلات من العقاب.

إن خطورة المنحى الجديد الذي سلكته التحقيقات في تونس تفسر حالة الهلع الكبير التي أصابت حركة النهضة الإخوانية، وهي حالة تدفعها إلى محاولة تحويل وجهة الأحداث نحو مسائل سياسية وحقوقية في إطار «وفاق انتهازي» مع أطراف سياسية فشلت على مدى السنوات في إقناع التونسي بجدوى برامجها وسياساتها، لتكون الغاية من هذا «الوفاق» إقناع الرأي العام الوطني والدولي بجدوى الإطاحة بسلطة الرئيس التونسي قيس سعيّد، والحال كما أضحى معلوماً، أنّ الغاية القصوى لحركة «النهضة الإخوانية» هي استرجاع الحكم بكل الطرق؛ لأنه السبيل الوحيد لوقف نزيف الملاحقات القضائية التي بدأت تأخذ شكلاً تصاعدياً مع وجود مؤشرات جدية على بداية تخلص الجهاز الأمني والقضائي من تبعات محاولات الهيمنة الإخوانية عليه.

إن هذا المسار الإيجابي سيتعزز نجاحه بالكامل بمزيد من انفتاح السلطة السياسية على الطيف المدني والسياسي الوطني من أجل تقوية الجبهة الداخلية، لأن المعركة مع «الإخوان» لم تحسم بعد، بسبب إصرار بعض الجهات الإقليمية والدولية على اعتبار الحركات الإخوانية جزءاً من المشهد السياسي، مع أن الشواهد من كل المجتمعات والدول التي مرت منها تثبت تجذر الظاهرة الإخوانية في الجريمة والإرهاب، ونحن من الذين يعتقدون أن الحل ما زال بين أيدي الرئيس إذا تعلقت همّته بذلك.

 

كاتب تونسي*

Email