شخصيات تحت المجهر

عبدالرحمن المشيقح.. من معلّم أحياء إلى مؤسس جامعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تراه فتحسبه مجرد رجل أعمال تقليدي ممن منّ الله عليهم بالخير العميم، فاستثمره في مجموعة مشاريع يرفد بها نهضة وطنه، ومجموعة أنشطة خيرية يبتغي من ورائها الأجر والثواب، غير أن د.عبدالرحمن المشيقح أكثر من ذلك بكثير، فهو إنسان متعدد المواهب والصفات، ومتمدد الأنشطة والأعمال، وهو إلى ذلك أديب ملهم، وتربوي ضليع، واقتصادي عريق، وإداري متميز، وسياسي وبرلماني محنك، ورجل أعمال ناجح، وقدوة وضاءة للأجيال، وسليل أسرة قصيمية معروفة، أدت أدواراً في تاريخ وطنها السعودي ونهضتها التنموية كابراً عن كابر.

ولأن الكثيرين ربما لم يسمعوا به خارج وطنه السعودي، ارتأينا أن نخصص هذه المادة لرصد سيرته المكتنزة بقصص الكد والطموح والنجاح، مستعينين بمؤلفين عنه، هما: كتاب «السفينة والربان»، وكتاب «سادن الأسفار».

ولد الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالعزيز بن حمود المشيقح بمدينة بريدة عام 1945 في وقت كانت فيه الحرب العالمية الثانية تلفظ أنفاسها، ابناً ثامناً للوجيه عبدالله المشيقح، ونجلاً أكبر لوالدته «ثاقبة مبارك ناصر المبيريك»، الزوجة الثالثة من بين زوجات والده الأربع. ونشأ في أسرة ذات صيت وجاه ومكانة واحترام وتاريخ، فلم يكن غريباً أن ينشأ منذ صغره على القيم والمثل والأخلاق الحميدة التي تشرّبها من والديه وأعمامه وأخواله.

مدرسته الأولى كانت مجلس أسرته المكتظ دوماً برجال العلم والأعيان والتجار، حيث حرص منذ صباه على الإنصات والتفكير في كل ما كان يدور فيه من حكايات ونقاشات وأخبار، والتأمل في وجوه الحضور وقراءة شخوصهم، خصوصاً وأن ذلك المجلس كان بمثابة مجلس شورى مصغر، وبالتالي وجهة دائمة لأهل بريدة آنذاك للتداول في الشؤون العامة.

كان والده حريصاً على أن يكون ابنه عبدالرحمن وبقية إخوته جزءاً من المجلس، كي يستفيدوا ويواصلوا مسيرة أسرة آل مشيقح، ويقودوا جيلها الرابع من بعد الجيل الأول، المتمثل في الجد حمود، الذي عاد إلى السعودية من العراق بعوائد تجارته الواسعة ليبدأ في وطنه الأم مسيرة جديدة، فكان الجيل الثاني المتمثل في ولده عبدالعزيز وأسرته، ثم الجيل الثالث المتمثل في حفيده عبدالله وأبنائه، علماً بأن جد الأسرة الأكبر «حمود بن مشيقح بن عبدالله آل عزام» كان قد خرج مع أخيه عبدالله من نجد إلى العراق، بعد سقوط الدرعية وانتهاء حكم الدولة السعودية الأولى سنة 1818م، حيث عمل هناك في تجارة الإبل متنقلاً ما بين البصرة وحلب، فحقق مالاً وفيراً وثروة طائلة بمقاييس زمنه.

أما مدرسته الثانية فقد كانت والدته التي زرعت فيه خصال التواضع والأدب الجم والالتزام وحب الخير، فكانت بمثابة الحضن الدافئ والملجأ الآمن والمرشد القويم، ما جعله متعلقاً بها، لا يطيق عنها بعاداً، خصوصاً وأنها كانت امرأة محنكة وثاقبة الفكر وملمّة بتقاليد البيوت العريقة، كونها نشأت في قصر إمارة بريدة حينما كان والدها أميراً للقصيم.

وتمثلت مدرسته الثالثة في دكان والده للمواد التموينية الواردة من الهند عن طريق البحرين مروراً بالجبيل، حيث كان يرصد بعين ثاقبة علاقات البيع والشراء، وعملية تدوين البضائع، ويصغي إلى ما يدور في المجلس الملحق بالدكان من أحاديث الربح والخسارة وغيرها من الحكايات، فتعلم مبكراً ألف باء المعاملات التجارية.

ويمكن أن نضيف إلى ما سبق مدرسة رابعة، هي مسجد آل مشيقح في بريدة، الذي كان يتردد عليه للصلاة والاستماع إلى دروس مشائخه، لا سيما وأن المسجد كان وقتذاك وجهة طلاب العلم الشرعي بعد أن ألحق به آل مشيقح غرفاً للسكن والإعاشة.

كان عبدالرحمن محظوظاً بوالده عبدالله، الرجل المؤمن بأهمية التعليم النظامي، على خلاف الآخرين ممن كانوا يتخوفون منه، ويرون في العلوم الشرعية بالمساجد والكتاتيب منتهى الغاية. وهكذا حينما ألحقه والده بالمدرسة الفيصلية في سنة 1372 للهجرة لبدء تعليمه الابتدائي، كان مستوعباً أموراً لم تكن محل إدراك أقرانه، فتفوق عليهم ونال رضا معلميه.

واصل تعليمه النظامي بعد ذلك بنجاح، فيما كانت مداركه تتوسع سنة بعد أخرى، ورفاقه يزدادون عدداً، وهواياته تتزاحم. كانت القراءة والمطالعة على رأس تلك الهوايات، بدليل أنه أسس مكتبته الخاصة الصغيرة وهو على مقاعد الدراسة المتوسطة.

تخرّج بمعدل عالٍ في القسم العلمي بمدرسته الثانوية عام 1386 للهجرة، ليبدأ التفكير في التخصص الذي سيدرسه في المرحلة الجامعية، وحينما هداه تفكيره إلى الكيمياء، راح يسأل نفسه أين سيدرسها؟

فكر بالسفر في بعثة دراسية إلى الخارج كما فعل آخرون كثر.. لكنه أدرك بحاسة الابن اللصيق بوالديه منذ الصغر أن سفره بعيداً سيؤلمهما، وسينغص حياة والدته الحبيبة تحديداً، فقرر أن يشد الرحال إلى الظهران للدراسة بكلية البترول والمعادن، حيث يسهل التواصل مع أهله، بل وزيارتهم في الإجازات.

شكلت أجواء الظهران وبيئة كلية البترول الحديثة وبرامجها التعليمية المتطورة إضافة مثيرة إلى حياته، ففيها تعلم الإنجليزية، وشاهد التلفزيون لأول مرة، والتقى طلبة مواطنين وعرباً وأجانب من مختلف المناطق والدول، وتلقى العلم على أيدي أساتذة من الغرب، ومارس أنشطة رياضية وثقافية وترفيهية لم يعهدها من قبل، غير أن الحنين إلى والديه وأصدقائه ومرابع طفولته وصباه في بريدة راح يوجعه ويؤثر سلباً على أدائه، فقرر أن يترك كليته بعد خمسة أشهر، ويلتحق بدلاً منها بكلية العلوم التابعة لجامعة الرياض. أما لماذا جامعة الرياض، فلأنها الخيار الوحيد المتبقي، ثم لأن في الرياض العديد من زملاء مدرسته الثانوية الدارسين، علاوة على أخواله وخالاته وجدته لأمه «لولوة بنت محمد الرشيد المشيقح»، التي أصرّت أن يسكن معها في بيتها، وبالتالي بدا الأمر بالنسبة إليه كما لو كان موجوداً في ضاحية من ضواحي بريدة.

وهكذا درس صاحبنا في الفترة من 1387 إلى 1391 للهجرة بكلية العلوم في جامعة الرياض، متباهياً بإنجليزيته التي تعلمها في الظهران، مواظباً على الحضور من دون انقطاع، ومستمتعاً بالألفة التي افتقدها في كليته السابقة، ومستثمراً وقت فراغه في القراءة والمعرفة.

مرت سنواته الجامعية سريعة، وتخللها زواجه من قريبته «مزنة بنت سليمان بن حمود المشيقح»، ورحلات عدة إلى المزارع والمصانع والصحاري مع دكاترة علمي النبات والحيوان لجمع العينات النباتية والحشرية، وزيارات كثيرة إلى مصانع البلاستيك والمرطبات لمشاهدة التفاعلات الكيميائية. كما تخللتها أوقات حزينة بسبب هزيمة العرب في حرب يونيو.

في عام 1971م تخرج حاملاً شهادة البكالوريوس في العلوم (تخصص كيمياء وعلم الحيوان)، مسلحاً بقراءة خارجية موسوعية، لكن لا هذا ولا ذاك ولا تخصصه النادر (آنذاك) منحه وظيفة أفضل من مدرس لمادة الأحياء بثانوية الرس، فقبل الأمر وتعايش معه من دون تذمر.. وفوق ذلك وافق أن يخرج طاقاته المعرفية للجمهور العريض من خلال محاضرات بنادي الحزم الرياضي بالرس. لفتت محاضراته أنظار المسؤولين الذين تيقنوا أن شخصاً بتلك الطاقات والمعارف يجب ألا يحبس في وظيفة تربوية عادية. وسرعان ما جاءته برقية من وزارة المعارف تفيد بوقوع الاختيار عليه لتمثيل السعودية في مؤتمر ببغداد مخصص لوضع المناهج العلمية للبلاد العربية.

في بغداد جلس الشاب حديث التخرج إلى جانب علماء عرب أكبر سناً، وأثرى تجربة وعلماً يناقش ويقترح ويشارك في وضع مناهج الأحياء للوطن العربي، فخوراً بتمثيل وطنه. بعد عودته إلى مقر عمله تمّ نقله إلى وظيفة مدرس لمادة الأحياء بثانوية بريدة، وبالتزامن كلّف بالعمل مدرساً لمادة العلوم في معهد إعداد المعلمين القريب. ولم يمضِ عام على ذلك إلا وصاحبنا يجد اسمه ضمن كشوف الابتعاث إلى ولاية إنديانا الأمريكية.

كان ذهابه إلى أمريكا نقلة نوعية في حياته.. وقرر منذ اللحظة الأولى لوجوده هناك أن يكتشف هذا العالم الجديد، ويغرف منه كل ما هو مفيد. وبينما كان يدرس الماجستير بجامعة بلومنغتون في تخصص جديد، هو طرق تدريس العلوم، راح يزور بنهم المعالم الأمريكية السياحية والثقافية، ويتفقد دور العلم والمصانع والمزارع لاكتشاف جديد التعليم الأمريكي، وينهل من مكتبات الجامعات الأمريكية العريقة، ويعقد الصداقات الجديدة.

عاد إلى وطنه عام 1976 مكللاً بشهادة الماجستير، فتم تعيينه فوراً مديراً للمعهد الفني الزراعي ببريدة، لكنه شعر أنه لم يغرف من العلم والبحث كفايته، فقرر، وهو على رأس عمله الجديد، أن يسجل في كلية التربية بجامعة «كينيدي ويسترن» في ولاية كاليفورنيا لنيل درجة الدكتوراه عن أطروحة غير مسبوقة بعنوان «التعليم المهني والتقني وحتمية التوجه العربي». وحينما شارف على كتابة أطروحته طلب من رؤسائه إعارته من الوظيفة الحكومية إلى شركة الوسائل الزراعية، كي يتفرغ للبحث والكتابة، فتمت الاستجابة لرغبته، ونجح في تحقيق مراده وسط ظروف صعبة ومعاناة بالغة بسبب ندرة المراجع المكتوبة.

بعدها قرر ألا يعود إلى عمله الحكومي السابق، وأن يكتشف نفسه وقدراتها في عمل جديد يشبع طموحاته، فكان أن تفرغ للعمل مع أسرته في إدارة وتطوير أعمالها. وسرعان ما نجح في جمع إخوانه حوله، ليَظهر إلى الوجود كيان اقتصادي كبير يحمل اسم آل مشيقح، سكب فيه كل ما تعلمه خلال مسيرته التعليمية والوظيفية السابقة، هذا الكيان الذي توسعت أنشطته، فشملت الصناعة والزراعة والغذاء والدواء والأعلاف والمقاولات.

وبعد رحلة حافلة في عالم المال والأعمال، ونجاح مشهود في تطوير أعمال الأسرة، وخلق جيل جديد مؤهل لقيادة دفتها، قرر أن يتخلى عن مسؤولياته الإدارية ويكتفي برئاسة مجلس إدارة «شركة الوسائل الصناعية»، سعياً منه للتفرغ للقراءة والتأليف وخدمة الدارسين والباحثين وطلبة العلم. وهنا نراه يحقق هذا الهدف من خلال افتتاح مكتبة ضخمة ضمت نحو 35 ألف كتاب، تحت اسم «مكتبة الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله المشيقح»، وإصدار العديد من المؤلفات العلمية والفنية والتاريخية التي أثرى بها المكتبة العربية، وصولاً إلى إسهامه الكبير في تحويل «كليات القصيم الأهلية» إلى واحدة من الجامعات السعودية الأهلية، وهي «جامعة المستقبل»، التي أطلقت مع مطلع الألفية الجارية، ناهيك عن قيامه بإطلاق «مسابقة الدكتور عبدالرحمن العبدالله المشيقح» الأدبية للشباب العرب والناطقين بالعربية، تشجيعاً منه للمواهب الأدبية، ودعماً للحراك الثقافي والمعرفي.

وتقديراً لمكانته الاجتماعية والعلمية، تمّ تعيينه في عام 1422 للهجرة عضواً بمجلس الشورى السعودي. كما نال ثقة الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وزير الدفاع والطيران الأسبق، الذي عينه عضواً في مجلس إدارة الخطوط الجوية السعودية لثماني سنوات متتالية. إلى ذلك نال العديد من الجوائز والتكريمات، وترأس الغرفة التجارية الصناعية بالقصيم لثلاث دورات، ما بين عامي 1413 و1425.

 

Email